الرئيس الأمريكيّ ( باراك حسين أوباما ) يخطب في كارولينا الجنوبية ، بمناسبة الإنسحاب المعلن ـ رسميّاً ـ لقوّاته الغازية من أرض الرافدَين ، والمحتفلة في بغداد بتلك المناسبة !!
أنّ الحرب الأمريكيّة على العراق تمثّل نجاحاً ونصراً تطلّب انجازه تسع سنوات ، بدأ بغزوٍ تأسس على أكاذيب ( أسلحة دمارٍ شامل لم تثبتها يوماً بعثات التفتيش الأمميّة العديدة ، ولكن مهزلة " كولن باول " في مجلس الأمن يبدو أنّها كانت كافية البرهان حينها !! ، تبعتها بعد انكشاف كذبها الفاضح ، وتهافت حججها ، دعاوى المهمام الأخلاقيّة ـ الرساليّة ـ والأمريكيّة حصريّاً ـ ،لإسقاط الدكتاتوريّة الصدّاميّة وتحرير شعب العراق !!!، بل والقضاء على ( إرهاب القاعدة ) التي لم يكنْ لها في العراق قدم ، واستجلبها الغزوّ ، فيما بعد ، في جملة وسائله المشبوهة اللامعلنة ( اللعب بالورقة الطائفيّة في العراق وتوظيفها ، وقد نجح ، وتخفيف ضغط القاعدة على وجوده في أفغانستان ، وقد فشل ) !! والأدهى ، إعلان الهدف الأسمى بتأسيس ديمقراطيّة ــ قاعدة ، تنشر مثالها وشموس أنوارها على المنطقة والمحيط ) !!!
هذه قراءة أمريكيّة ، لا يستحي فيها الرئيس الأمريكي ، حتى من نفسه ، وهو الذي عارض تلك الحرب اللا أخلاقيّة ، باعتبارها فضيحة مجلجلة عالميّة ، هشّمت الصورة الأمريكيّة ، بدوافعها المتهافتة الملفقة !! ( وكأنّ صورة الأمريكيّ ـ قبلها ـ جسّدت سماحة المسيح !! ) ، بل واعتبرها ـ في توضيح معارضته لها ـ كارثة قوميّة للأمة الأمريكيّة ، بمسارها والنتائج المترتبّة عليها ، من مجتمعيّة إنسانيّة ، واقتصاديّة مرعبة بتكلفتها ، وسوء حساباتها ، وارتجاليّة إدارتها ، كلّ ذلك قبل أنْ يصبح "الرئيس أوباما " ، وارث تلك الحرب وأوزارها ، لكنْ وعلى ما يبدو ، فـ ( أوباما المرشح ضدّ بوش الإبن ) ليس ذاته ( أوباما الرئيس المرشح لوراثة نفسه ) ، بل بالتأكيد ليس هو ، إلاّ إذا كان المنافق الموهوب اللاعب الدّور ونقيضه !! ، أو المتأرجح في ثنائيّة أزمة الصراع الداخليّ بين الخير والشرّ ، ومرضيّة أعنف تمظهراتها ، في تجسيدها الصدامي واقعاً تناوبيّاً ،بتعاقب الليل والنهار ، كما في الرواية الخيالية : ( دكتور جايكل ومستر هايد ) للأديب الأسكتلندي روبرت لويس ستيفنسون !! ولئن كان للخياليّة مشروعيّة تصوّراتها ، فإنّه ليس للإنتهازيّة السياسيّة أيّة مشروعيّة ، خاصّة حين تنظّم مهرجان احتفاليّة للتزييف والتضليل و " روتشة " وجه الجريمة البشع ' لأبطال ' ملحمة الإنحطاط في سجن ( أبو غريب ) ــ اللوحة المعبّرة عن فظائع ذلك الغزوّ الرهيب .
فأين النصر الأمريكيّ ، أيّها الرئيس ( اوباما ) ؟ !!
ــ أبالآلاف الخمسة من القتلى الأمريكيين في حربك القذرة ؟ !!!
ــ أبعشرات الآلاف من مشوهي الحرب الأمريكيين ، أو المرتزقة الموعودين ـ رشوةً ـ بالجنسيّة الأمريكيّة ، وجنّة الحلم الأمريكي ، وها هم ،على أبوابها ، ينتظرون ،مشوّهين جسديّاً ونفسيّاً وأخلاقيّاً ، أفجنّة موعودة لهؤلاء ـ هي ـ أم مصحّة عقليّة وإصلاحيّة مجرمين ؟ !!!
ــ أم تبديد البلايين الفلكيّة المهدورة من ثروات العالم ـ لا الأمريكيّ فقط ـ مما يضع الإنسانيّة ـ لا الأمريكيّ المدلل فقط ـ لا في عنق زجاجة الأزمة الإقتصاديّة ، الخانق لكل تطوّرٍ وازدهار ، ولكنْ يصلبها على جدار الركود الإقتصاديّ ، بكل تبعاته المدّمرة ، والتي تشكّل الحروب العدوانيّة بعضاً من الآليات الجانبيّة في ترجمة الفشل بتقديم ناجع الحلول لها ؟ !!!
ــ أبالعراق المتروك لتشريعات المواد " المقدّسة " لدى الصنائع ـ المستفيدين من دستور ( بريمر ) ـ لا ( حمورابي ) ـ ، والتي جعلت من " العراق ـ الوطن " مشروع " أوطانٍ ـ فتات ـ أقاليم " قيد التنفيذ ، برايات إثنويّة ( كرديّة ، عربيّة ، تركمانيّة ، آثوريّة ) ، دينيّة ( إسلام ، مسيحيّة ، عبدة الشيطان : ولم لا ؟ فأكثريّة ـ هم ـ بلغة الواقع !! ) ، أو طائفويّة فتنويّة موقظة من ( طائفيّة سياسيّة : سنيّة ـ شيعيّة ) مستدعاة من عفن دهاليز ظلاميّة تاريخ ثأريّ مشين ؟!!!
نعم أين النصر أيّها الرئيس الأمريكيّ ( اوباما ) ـ وخاصة الأخلاقيّ ـ ؟ !!!
ــ أبمئات آلاف العراقيين ـ الضحايا ، أم بملايين اللاجئين منهم ـ داخليّاّ وخارجيّاً ـ أم بالملايين الخمسة من اليتامى وعذابات الأرامل أمّهاتهم ، أو بجعل ـ بعض ـ اللحم العراقي الحيّ الحرّ ، رخيص بضاعةٍ في سوق تجارة الرقيق الأبيض وكلّ لون ؟ !!!
ــ أبجرائم ( بلاك ووتر ) ، أم بإنجازات ( لصوص الآثار ) سرقة التاريخ ؟!!!
ــ أبتمزيق اللحمة الوطنيّة للمجتمع العراقي ، وتشويه ديناميّة البنى المفاهيميّة لحركيّة نموّه الحضاريّ ، وإعادته ـ قسراً نكوصياً وبالقوّة الغازية السافرة ـ إلى مركّبات التشكّلات قبل ـ الوطنيّة وهدّام صراعاتها ؟ !!!
ــ أبهدم وتدمير البنيّة التحتيّة والأسس الماديّة لإرساء أساسيّات العمران المدني ، الذي بدأه إنسان أرض الرافدين ، فاتحاً به باب التاريخ ، لآلاف سنواتٍ عشرةٍ خلت ، ممتدّةٍ بين أمس ولادته الميزوبوتانيّة ويومنا المعاش على إيقاع رسميّ الإنسحاب الأمريكيّ ، بعد إنجاز مجازر انتصاراته على الجسور التي دمّر ، وشبكات الطرق التي محا ، ومشاريع المياه التي عطّل وخرّب ، ومستوى خدمات الصحة التي أهمل وألغى ؟ !!!
ــ أبإخراج العراق من نهضة تصنيعه التي كانت قبل الغزوّ ، ورغم سنوات الحصار الظّالم ، وإنْ تلطّى وتغطّى بقرارات المجتمع الدوليّ نظريّاً ( والأمريكيّ واقعاً ) ، متقدّمة نسبيّاً على تلك الموجودة في دول الجوار العراقيّ ؟ !!! أمْ بإعادة زراعته بدائيّةً إلى عصر اكتشافها ، بالتدمير المبرمج بقصف بنية مشاريع الريّ وخاصّة ـ عمودها الفقريّ ـ السدود ؟ !!!
ــ أبإفراغ العراق من علمائه اغتيالاً وتهجيراً وإغراءً ، والأكثر أذيّةً ، شيطنتهم وأبلستهم بربطهم ـ تسمية وأوصافاً ـ بأسلحة الدمار الشامل ، فتلك العالمة أصبح اسمها : الدكتورة جرثومة ( يعنون الدكتورة هـدى صالح مهـدي عمـاش المختصّة بالعلوم البيولوجيّة) ، وذاك العالم أصبح اسمه غاز" السارّ السّام " إلخ....، لتقديمهم رموز شرٍّ يحقّ للخيّر ،الكوبوي الأمريكي ، بل ويصبح من واجبه بصفته تلك ، اسئصال شأفتهم ، نيابة عن الإنسانيّة جمعاء ، وخدمة لخير التطوّر السلميّ الآمن لحضارة البشر ؟ !!!
ــ أبإيصال دولة العراق ومركزيّة قرارها إلى أثرٍ بعد عينٍ بتحطيم مؤسساتها ، خاصة الجيش والتعليم ، والتاريخ ، و....، وليس ما يستحق حرص الجيش البوشيّ الغازي إلّا وزارة النفط وشركة النفط الوطنيّة العراقيتين ؟ !!!
كلّ سواد أفعال الغازي في الواقع ـ المعطى ، الناطق بإجرامه ، والتي لا تفعل الأسئلة أعلاه ـ ومئات أخرى تكملها ـ إلا جملة استفهاماً ، وتضمّنه االإستفهام جواباً ، وتحميله تصوير واقع الجريمة الكاملة الأركان وثوقاً وتأكيداً ، كلّ ذلك يسميّه الرئيس الأمريكيّ ( اوباما ) : ( نجاحاً ونصراً !!! ) ، فبأيّ القياسات والمعايير ؟ !!! ربّما هي قياسات خاصّة ومعايير مخفيّة ، نقيضة للمعلنة التي ثبت تهافت مصداقيّتها وكذب ادعاءاتها ، لكنّه الأمريكيّ ، الذي يصدق فيه المثل الذي لطالما سمعته من أقران جدّتي : ( اثنان محكومان بالنسيان : فضيحة الغنيّ ، وميتة الفقير ) ، إنّه تكثيف ـ فلاش لفضيحة ـ جريمة الأمريكيّ ( الغنيّ ) ، وواقع ضحيّته العراقيّ ( الفقير ) ، أو أنّه ـ وباختصارـ نصر المجرم على ضحيته المغدورة ، ونجاحه ـ السقوط بإجهازه عليها ، وإلاّ فكيف يجوز ـ وأخلاقيّاً قبل كلّ شيء ـ اعتبار الخراب والقتل والإجرام ، وفظاعات التعذيب الصريحة والمعترف بها : نجاحاً ونصراً ؟!!!، لكنّه قانون منطق القوّة الفارض مفهوم مصطلحه ، مزيحاً واقعيّة الفعل القائم ، لمصلحة فرض واقع سورياليّةِ عالمِ تزييفٍ غريب !!!
على الضفّة الأخرى والمواجِهة ، محلياً عراقيّاً ، تيارات وتحالفات ودول ، إقليمياً ودوليّاً ، الجميع يتبادل أنخاب النجاح بنشوةٍ هنا ، وشماتة هناك ، فالجميع منتصر ، إنها حفلة لامعقول غرائبيّ ، مهرجانٌ تنكريّ لاحتفال تكاذب وتنافق للبعض ، ومشاركة تعويضٍ هروبيٍّ للبعض ، وقنابل تضليل دخانيّة من البعض ضدّ البعض ، أمام استحقاقات واقعٍ مستجدٍّ ، ومحاولات تموضعات متغيّرة ، لكل القوى والأطراف ، المتصادقة المتحالفة قبل المتعادية المتصارعة ، فوق واقعٍ رمليٍّ متحرّك .
في ذلك السديم ـ المصطنع معظمه ـ برز فريق مختلف الأهداف مستقلّها ، مخالف التوجه للإملاء الأمريكي بل أكثر من ذلك ميّز نفسه بتموضعه في خندق مقاومة المشروع الأمريكيّ للمنطقة بلا لبْس ، وتعرّض لحربين ـ عدوانيين ، شنتهما الدّولة الصهيونيّة ، قاعدة الإمبرياليّة المتقدمة في المنطقة على الجبهة اللبنانيّة ، ضدّ مقاومتها الجاهزة للرد بصلابة وتصميم عمودها الفقري : ( حزب الله ) المجاهد ، الذي هزم صموده الأسطوري عام 2006 آلة الحرب الصهيونيّة وجيش تساحالها ( الذي لا يقهر !!! ) ، ونقل المعركة إلى داخل الكيان الصهيونيّ لأولّ مرّةٍ في تاريخ مسار الصراع العربيّ ـ الصهيونيّ ، وعلى ( غزّة هاشم ) عام 2007 ـ 2008 ، حيث صمدت مقاومة غزّة ، وبقيت واقفةً بعزّة المؤمن الصّادق بوجه وحشيّة ( عمليّة الرصاص المصبوب ) ومحرّم أسلحتها ( اليورانيوم المنضّب والفوسفور الأبيض و........... )
وبالطبع كان لهيب الحربين السابقتين رسماً بالنار على مساحة اللحم الحيّ ، إلّا أنّه لم يكن كلّ المبتغى ونهاية المطاف ، بل لعلّ الظاهر الطّافي من جبل الجليد يقارب توصيفهما !!! فللمواجهة بين الفريق المختلف ـ المخالف لمشروع الهيمنة الأمريكيّ ـ الصهيونيّ ( الشرق الأوسط الجديد ) وبيادقه المحليّة ، أشكال وسويات مواجهاتٍ ، لم تتوقف ، بل تعددت ساحاتها ، وتنوّعت أدواتها ، من استثمارٍ لاضطرابٍ مفتعلٍ أو حراكٍ مُطالبٍ بحقٍّ مشروعٍ ، لإذكاء الفتنة وهزّ تماسك الجبهات الدّاخليّة (حالتا إيران و سورية ) ، إلى استنفار المنظمات الأمميّة الخاضعة للهمايونيّة الأمريكيّة ، إلى التلويح بالعصا الناتويّة المجربة من ( يوغسلافيا السابقة إلى ليبيا اليوم ) .
إنّ استعراض أهل هذا الخندق المقاوم ، المختلف والمخالف ، للأسئلة أعلاه ، ببارد عقلانيّة التحليل ، في محموم الهجمة الصاخبة التي يتعرضون لها ، والعمل على توظيف معطياتها ، كما فعل المستشار الألماني ( اديناور ) في خمسينيات القرن الماضي ، محوِّلاً خراب المانيا الخارجة من جحيم الحرب العالميّة الثانية إلى فرصة نهوضٍ اغتنمها ، فلم يقف باكياً على الأطلال ( ربّما لأنّه لم تشكل ذهنيته حكمة شعرنا العربيّ ومعلّقاته المعلِّقة !! ) ، مما قد يوفر إمكانيّة التلويح بنصرٍ لشعوب المنطقة ، من المبكّر جدّاً الإحتفال بحصوله فواقع رسميّة انسحاب الأمريكيّ من العراق لا يعني أنّه ناجز منجز إلاّ شكلاً ، فالإتفاقيّات الأمنيّة الأمريكيّة العراقيّة لم يجف حبرها ، وأكبر سفارة أمريكيّة في العالم تقيم في المنطقة الخضراء !! من بغداد ، والعالم متعدد الأقطاب في رحلة مخاضه المستمرة العسيرة ، وأحياناً المتعثّرة ، ولغة التسويات والمساومات ، وتبادل المنافع على نقاط تلاقي المصالح وتقاطعها قائمة على قدمٍ وساق ، وأمّا المبدئيّة والأخلاقيّة ، والطهرانيّة المثاليّة ، فقد تركها منطق البراغماتية النفعيّة أيقونة " يوتوبيا " وقصيدة رومانسيّة حالمة .
لستُ ـ أبداً ـ رسالة شؤمٍ ولا مرسالها ، لكنّ حقائق الواقع تقول :
إنّ النصر ممكن ولكن دربه شاق وطويل ، فلا يجوز قرع طبول الفرحة لبشارته على أهميّتها ، لأنّ المحتفل بربح ورقة اليانصيب بأرقام غير مكتملة الظهور قد يخذله الرقم الأخير ويحيل فرحه اللحظيّ إلى مشاعر خيبةٍ وإفلاس رهان ، فلينتبه ، وليتعقلن ، فليس موسم البذار دائماً حتميّ موسم الحصاد ، فليُذكرْ دائماً حاسم دور المطر ، وإلّا ............