ما يحدث معنا، نحن الجيل الجديد، هو أننا نفقد متعة تجارب الحياة.
لأننا نشاهد الموقف ستون ألف مرة في التلفاز قبل أن نقع به ما يفعله التلفاز هو قتل كل ما بداخلنا من دوافع فالدافع هو الوقود الذي يحرك الإنسان، ويعطيه المقومات اللازمة من الصبر وتحمل الشدة وحب المغامرة وحب الذات وهذه المقومات هي التي تمنح الإنسان انسجاماً (ليس انقياداً) مع الواقع المحيط وتدفعه للإنجاز وإثبات الذات وتطوير الذات لبلوغ منازل عليا. وهذا ما نحن منه محرومون!
إننا، ورغم الروتين الذي أصبح مكوناً أساسياً لواقع العصر، نشعر مع ذلك بالروتين من قول مرحباً أو صباح الخير، بل أي حوار يدور في مكان ما. أصبح كل شيء مألوف.. كل حديث أو موضوع أو جملة مكررة. وهكذا تقتل الإبداع.. فهكذا تقتل الإنسان!
لقد جعلنا التلفاز نعيش حياة الآخرين وننسى حياتنا. فنحن نشعر بالنشوة عندما يطل علينا البطل سوبر مان بانتصاره على الوحش الشرير. أو تنفطر قلوبنا لأن توم هانكس عاد بعد أربعة سنوات من الجزيرة البعيدة، ليجد زوجته السابقة قد تزوجت وأنجبت بعد أن سلّمت بأنه مات غرقاً.
ليست مشكلة أن تشاهد أو تسمع قصة وتتأثر بها، لكن أن تتعلق بقصة مسلسل حلقاته لا تنتهي، فهنا يذهب كل ما تملكه من حب، وحزن، وفرح، وسرور، ونشوة، ليتفرّغ هناك. نحن نعشق شخصيات المسلسل ونحلم بهم ونعيش معهم، في زمانهم ومكانهم، تاركين زماننا ومكاننا وحياتنا في الخلف!..
إن الإنسان متعلق غريزياً بحياته كقضية شخصية ومصيرية. والكارثة الكبرى، عندما تتحول الغريزة الإنسانية، التي خُلقت أصلاً لتمنح الإنسان التوازن النفسي والاجتماعي، والإنساني ككل، وتنقلب ضد الإنسان نفسه. وهذا ما يحدث غالباً عندما تتدخل الأيادي الخفية، التي تعلم بوجود هذه الغريزة، ووجهتها حسب الرغبة. فإذا أردت السيطرة على البشر، ولديك المعرفة الكاملة بالإنسان وغرائزه، ووجهت هذه الغرائز فيما يخدم غاياتك السلطوية، فأنت ملكت العقول بالتالي ملكت البشر! (عندما تقرأ تاريخ السيطرة على البشر وتحويلهم إلى قطعان من الخراف.. ستنسب كل أحداث العالم للمسيطرين).
من يربي الأطفال الآن؟.. الأب مشغول، والأم مشغولة، والبيبي سيتر كائن مضطهد، اضطرت أن تترك أطفالها في المهجر لرعاية أطفالك، من أجل المال بالنتيجة، ليس حباً بطفلك ورغبةً في أن يصبح عظيماً.. لم يبقى في الساحة الآن سوى الـتّـلـفـــــاز.
لم يعد غريباً أن تشاهد طفلاً يتجشأ أو يخرج ريحاً على العلن ويضحك على فعلته، وقد اعتاد على برامج الأطفال العصرية!.. إنه المربي الفاضل لأطفالنا، ولكل شخص عاش طفولته في أحضانه مع أبطال الديجيتل. علّمَنا أن رب العمل يهين الموظفين الذين يرفعون من شأنه ويعطونه مطلق الصلاحية في استعبادهم لخدمته.. علمنا أننا كائنات فوضوية وجب تنظيمها من الخارج، لأنها غير قادرة على تنظيم نفسها من الداخل.. علمنا بالنتيجة أن هناك سلطة تحكم قبضتها على الشعوب بحجة حمايتهم وتنظيمهم، وبحجة وجود عدو خارجي يهدد أمن الوطن.. وأن السلطة هي شيء مقدس ووجب على الفرد المواطن بالنتيجة احترامها مهما قامت بأفعال، فهي لمصلحة الوطن.. وأي نداء من السلطة هو نداء من الوطن.. علمنا أننا ضعفاء، يائسين ومحبطين، وأن هذه هي المعاني الحقيقية للحياة.. علمنا كيف نحقد ونكره بعضنا البعض، ونحارب بعضنا البعض، والانتصار للأقوى (الأعلى نفوذاً).. علمنا كي نخاف الكبير ونحقر الصغير.. علمنا بشكل غير مباشر، أن المواطن كائن حقير وصغير وأبله محدود التفكير ، وهو المسبب الرئيسي لكل صغيرة وكبيرة.. علمنا أن من يملك المال هو من يملك الحياة..
كلها أفكار تلقيناها بالتدريج حتى أصبحت مسلمات.. فهلا تركنا التلفاز جانباً.. وانطلقنا إلى حياتنا الحقيقية.