لا يمكن أن يقتصر الخوف دائماً على الخوف من الغزو الخارجي العسكري لفرض رؤى أو برامج من أجل استمرارية العلاقات الدولية بما يناسب مصلحة القوة التي تعدّ نفسها المسيطرة وتحافظ على سيطرتها
وتقطع الطريق على أي قوة أو قوى ناشئة، فقد تتغير قواعد العلاقات الدولية وتوزيع الحصص الاقتصادية، لأن التطور التاريخي والتراكم المعرفي والفكري والقيمي وازدياد سوق التسلح، جعل الكثير من الدول الاستعمارية تعيد حساباتها للخسائر البشرية الناجمة عن أي تدخل عسكري مباشر.
ولذلك لا بد من الوصول إلى ما تريد بأقل الخسائر الممكنة، ومنها اللعب بالبنى الداخلية للبلدان من خلال تشجيع الفساد أو الإفساد وإيجاد أدوات مرتبطة بفئات مافيوية تابعة لها.
من ضمن الوسائل التي اعتمدت لهذا الموضوع استخدام الأموال وسيلة استقطاب لفئات وفرضها على التركيبة الداخلية للبلدان، إضافة إلى تشجيع انتشار الفساد وما نجم عنه من أموال أوجدت فئات أخرى، ومن خلال ذلك ساد وانتشر وعم مصطلح جديد يسمى الأموال السوداء، ومصطلح آخر يسمى تبييض الأموال.. وهو مصطلح يطلق على الأموال التي يحصل عليها أصحابها بأي وسيلة أو طريقة مخالفة للقوانين والأنظمة الضابطة والناظمة للحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في البلد المعني، وهنا لابد من التفريق بين الإطارين القانوني والشرعي، فقد يكون هناك فرق بينهما باختلاف البلد المعني بالدراسة وعاداتها وتقاليدها والقانون الوضعي الموجود فيها.
و لمصطلح غسيل الأموال العديد من التعريفات إلا أنها متفقة في المضمون، فقد عرَّفته اللجنة الأوربية لغسل الأموال في دليلها بأنه (عملية تحويل الأموال المتحصلة من أنشطة جرمية بهدف إخفاء أو إنكار المصدر غير الشرعي والمحظور لهذه الأموال أو مساعدة أي شخص ارتكب جرماً ليتجنب المسؤولية القانونية عن الاحتفاظ بمتحصلات هذا الجرم).
وبناء على هذا التعريف فإن غسل الأموال هو إظهار الأموال المتحصلة من جرائم التجارة غير المشروعة، مثل المخدرات والإرهاب والقمار وغيرها، بصورة أموال تتمتع بقانونية المصادر وشرعيتها. ويعود مصطلح غسيل الأموال إلى عصابات الجريمة المنظمة من حيث المصدر، هذه الجماعات التي تمتلك أموالاً كبيرة ناجمة عن عمليات محرمة مثل المخدرات والقمار.. وغيرها. فقد أرادت هذه العصابات حل مشاكل السيولة وعدم قدرتها على الاحتفاظ بالأموال داخل المصارف فعمدت إلى إضفاء صفة الشرعية على مصادر أموالها المحرمة من خلال غسل الأموال، وهذه الجريمة لا تقتصر على مرتكبها فقط وإنما تتعداها إلى كل من شارك بها من مساهمين ومتدخلين ومستفيدين، وكل من أخفى معلومات أو أنكر حقائق تتعلق بطبيعة المصدر أو بعلاقة الملكية.
وهناك أساليب وطرق كثيرة للحصول على هذه الأموال من خلال أنشطة مختلفة، من أهمها
تجارة المخدرات، الاختلاسات. التدليس، المقامرة، الابتزاز، الرشوة، التزييف، تجارة الأسلحة غير المشروعة، الإرهاب، الاختطاف، الدعارة.
و لكن من يحصل على هذه الأموال بأي أسلوب سبق ذكره يحاول دائماً دمج هذه الأموال في الحياة من خلال أنشطة تعطيها الصبغة القانونية، ولو على أساس تأسيس مشاريع خاسرة أو عديمة الجدوى الاقتصادية أو ما يسمى بغسيل الأموال أو تبييض الأموال.
وهذه العملية ليست هامشية أو بسيطة على المستوى العالمي، وخاصة إذا علمنا أن حجم الأموال التي تتداول في عمليات غير مشروعة يبلغ تقريباً 4,1 تريليون دولار. وإذا علمنا أيضاً أن تجارة غسيل الأموال هي ثالث أضخم نشاط في العالم بعد نشاط تصريف العملة وصناعة السيارات، أدركنا مدى أهمية مكافحة غسيل الأموال وأسبابه.
ولعبت المصارف في الماضي دور الوسيط الموثوق به أكثر من أي شيء آخر، وفي وقت ندرت فيه المعلومات عن الشركاء التجاريين والتجارة بشكل عام، استطاعت المصارف أن تكون مصدراً جيداً للمعلومات واستطاعت أن تدير المخاطر وتسهل التجارة.
و قد ساهمت ما يسمى العولمة التي كان من أهم أهدافها هو استمرار السيطرة الاقتصادية والتمركز العالمي كقوة مركزية وقوى تابعة، وكان المجال المالي من أكثر الأمور التي ركزت وعملت عليها هذه العولمة (الأمركة) من خلال التقنيات الحديثة والفضائيات والإنترنيت في تسهيل عملية التواصل والتحويلات بين الشركاء والأسياد والإتباع وما بين الفرقاء في عالم التجارة. وهؤلاء الفرقاء يحتاجون بلا شك أيضاً إلى مصارف خبيرة تقدم لهم المعلومات والإدارة والتسهيلات التجارية.
ومن هنا يجدر القول بأن المصارف هي بلا منازع الطرف الثالث الذي يسمى بـ (المستشارين الموثوق بهم) وهو الدور الذي هيمنت عليه المصارف منذ القدم بلا منازع، ولذلك فعلى المصارف أن تتطور، وفي الوقت نفسه عليها أن تأخذ جانب الحذر واليقظة. فقد قالوا دائماً إنه في لحظة اتخاذ أي قرار يجب أن نتذكر أن أفضل عمل تقوم به هو العمل الصحيح، والذي يليه في ذلك هو العمل الخطأ، ولكن يظل دائماً أسوأ شيء يمكن أن يحدث هو ألا تفعل شيئاً أبداً. والخطورة من الأموال السوداء تكمن في عالمية وعولمة العصابات المافيوية التي تتخذ مسار التعاون والتعامل والتكامل في نشاطات تحصيل الأموال وتحويلها وتذليل الصعوبات من أجل الحصول على هذه الأموال وتبييضها. إن أهم اللاعبين الرئيسيين في نشاط غسيل الأموال
1-عصابات المافيا الأمريكية.
2-عصابات المافيا البلغارية.
3-العصابات الآسيوية.
4-المافيا البولندية.
5-المافيا الروسية.
6 - المافيا الرومانية.
7-عصابات المخدرات في أمريكا الجنوبية.
8-المنظمات اليابانية الإجرامية.
وتقوم هذه المافيات أو العصابات أو حتى الأشخاص بتبيض هذه الأموال أو غسلها، كما يقال على المستوى العام، على ثلاث مراحل
1-المرحلة الأولى تسمى مرحلة التوظيف.
2-المرحلة الثانية مرحلة التمويه.
3-المرحلة الثالثة مرحلة الدمج.
وفيما يلي إيجاز لكل منها
أولاً- مرحلة التوظيف
الهدف من هذه المرحلة هو وضع الأموال غير المشروعة داخل النظام المالي، إما عن طريق نقلها بكميات صغيرة في حقائب بوساطة المسافرين، أو عن طريق نقلها بالبحر مع تجار عاديين في بعض الأحيان. كما يمكن الاعتماد على عدد كبير من الأشخاص المرتزقة ثم يتم من خلالهم إيداع مبالغ صغيرة متعددة في عدد مختلف من الحسابات ومن ثم تجميعها بعد ذلك مصرفياً في حساب واحد بطريقة لا تثير الكثير من الشبهات. ويتولى المرتزقة مهمة تفتيت هذا الحجم الهائل من الأموال إلى مبالغ صغيرة، ويمكن أيضاً تحويلها إلى بضائع مختلفة صالحة للنقل أو الشحن.
ثانياً- مرحلة التمويه
يتم فيها العديد من العمليات المعقدة بهدف إخفاء الدور الحقيقي للأموال، ومنها على سبيل المثال
1.خطابات اعتمادات غير أصلية.
2.شراء ثم إعادة بيع عقارات أو أغراض ثمينة.
3.شراء تذاكر اليانصيب الرابحة.
4.تحويلات مصرفية وتحويلات أموال.
5.شراء حصص في محافظ استثمارية.
ثالثاً- مرحلة الدمج
يتم فيها ضخ الأموال في الاقتصاد مرة أخرى، لتبرير ثروات (غاسلي الأموال) وجعلها تبدو من مصدر مشروع، وأمثلة على ذلك
1.الودائع النقدية.
2.استثمارات في محافظ استثمارية، أوراق مالية، تحف فنية، رسوم فنية، صناديق استثمار، عقارات.
3.مشاريع رأسمالية.
وسائل غير نقدية لغسيل الأموال
1.التحويلات بالسويفت والإنترنت وغيرها.
2.الشيكات السياحية.
3.الأوامر المصرفية وأوامر الدفع.
4.السندات.
5.الأوراق المالية أو أية أدوات مالية شبيهة أخرى.