من المعروف أن قصة طرزان هي حكاية أسطورية عن إنسان يعيش في الأدغال بين الحيوانات ولطالما كان الإنسان مهما كان تقنياً وعملياً يهفو للأشياء البدائية ويجنح فعلاً للعيش معها ولو لبعض الوقت
وهذه طبيعة متجددة في أعماق الجنس البشري فالمرء يحنّ دائماً إلى أيام الطفولة يوم كان يلعب مع أقرانه في الحي أو إلى أيام الدراسة الابتدائية ويعني ذلك انه يحن بشكل عميق إلى بداياته, بداية الأشياء وزهوها الأول والعذب باستثناء من عايشوا ظروفاً صعبة لها علاقة بالفقر والاضطهاد , فعندما نكون أطفالا كل شيء يكون كبيراً وواسعاً في أعيننا وعندما نغدو كباراً يختلف الأمر فتنمو أجسادنا ونرى الأشياء صغيرة والباحات والشرفات التي كنا نركض فيها تغدو ضيقة لا تتسع لنا وهذه النقطة هي الأكثر حساسية فعندما نرى الأشياء بزهوها الأول نكون قد رأينا الجمال الذي لن يتكرر والفن الذي لن يعاد ونحن نتمنى دائما الإحساس بتلك الصورة أو بذلك المشهد وأكثر ما يفسر ذلك الشعور ويعبر عنه أشد تعبيرا هي الفنون إذ تحاكي النزعة البدائية اللطيفة وعلى الأخص في حياة بعض الشعراء والفنانين التشكيليين ونلحظ ذلك جلياً في لوحات ومنحوتات فنان عصر النهضة العظيم (مايكل إنجيلو) إذ نرى الأجساد العارية ذات العضلات المفتولة في وضعيات مدهشة تعكس حالة طفولية وتلاحم أنساني وأيضاً الأجسام الأنثوية المكتنزة ذات البعد النفسي والامومي وهي تحاكي جمالا بعيدا بإيهام جنسي عميق , في أعماله تتبدى البدائية التي أتكلم عنها في أبهى صورها ونجد الرغبة بإظهار الحالة المثالية التي تشكل جوهر الفن وتعبر عن الجانب الايجابي في مفهوم (الطرزان) ببعده النفسي والأسطوري على حد سواء , إنسان الأدغال الذي يقفز بين الأشجار بحرية مطلقة ويلعب مع باقي الحيوانات غير آبه بالقوانين والأنظمة وهو يمتلك الرشاقة والعضلات ليعبر عن نزعته وهذا ما يفتقر إليه أغلب البشر - إرادة غريزية خيرة مع قوة جسد وثاب ورشيق بعيدا عن قانون يقيد حركة الجسد وتغدو الحياة سيركاً يتحكم الفن بكافة حباله وبطبيعة الحال يعبر مفهوم الطرزان عن حالة روحية قصوى لأنه بمنأى عن ضغوطات حضارية ومادية تؤثر على جوهر إنسانيته وعلى خياله المنطلق الذي هو خيال باقي البشر في حالته الرومانسية الحالمة وعليه يجب ان يكون راضيا يطلق كما نتخيل صيحات مبهجة وواثقة .
نموذج آخر يعبر عن طرزان كبير هو الشاعر الفرنسي الرائع (آرثر رامبو) والمتفرد بأسلوبه الشعري رامبو قريب جدا من حقيقة نفسه واضطراباتها السامية نحو الصفاء والسلام الأبدي وهي الرغبة التي كانت معاكسة لحياة ومسيرة رامبو المليئة بالمغامرات والمجازفة حياةٌ موجود سرها في أعماقه ولا يمكن الهروب من نهايتها إلا بالتجوال من بلد إلى آخر هائما على وجهه ناهيك عن هذاينات استثنائية رافقت موته , في واحدة من أولى مقطوعاته وأكثرها شاعرية وهي قصيدة (إحساس) وهذه نصها : (سأمضي بين الدروب في أمسيات الصيف الزرقاء تخزين سنابل القمح دائساً العشب الدقيق ولسوف أحس وأنا احلم بندواته عند قدميه ولسوف أدع الريح تغمر رأسي الحاسر لن أتكلم لن أفكر في شيء :
لكن الحب اللامتناهي سيصعد إلى نفسي ،
وسأمضي بعيدا ،بعيدا جدا مثل بوهيمي عَبر الطبيعة سعيدا كأنني مع امرأة).
سأمضي في الدروب سعيدا كأنني مع امرأة , المرأة هنا تشبه الحالة القصوى التي يتمناها لكنها لا تمثلها بالكامل هو يريد أن يشعر بسعادة تذكره بامرأة عرفها يوما بينما بواقع الأمر يريد أن يكون بوهيميا لا يفكر بشيء ولا يشعر إلا بحب طفولي ويبدو أنه يتمنى أن يكون طرزانا وحسبْ. حتى المرأة لا تمثل الانفلات الروحي الذي يحلم به وحياة رامبو كانت قصيرة وعاصفة وغريبة الأطوار كلما كان المرء منسجما وصادقا مع حالته النفسية كلما زاد تفردا واقترابا من أعماقه مثال آخر على حديثنا يكمن في رواية (فيكتور هيغو) العظيمة (عمال البحر) وبالتحديد عند بطل الرواية (جيليات)هذا البحار الانطوائي المنعزل والحالم أيضا يمضي معظم وقته في البحر بين الأمواج وأحيانا يتسلق الصخور المحاذية للمياه بحثا عن شيء ما وكأنه في غابة وفي حوزته حالة حب من طرف واحد عميقة وغريبة وفجأة عندما يفشل الحب ينهار العالم المتخيل عند جيليات , إنه يزوج حبيبته ويقرر إنهاء حياته غرقا وهو مازال في ريعان الشباب جيليات لم يكن ضعيفا بل على العكس كان شجاعا وقويا وهو كمن ولد على ظهر سفينة وأمضى عمره فيها وعندما نزل منها لم يحتمل فراقها .الرسام الهولندي الشهير (فان كوخ) مثال آخر إثر الحكاية التي رويت عنه بأنه اقتطع إذنه تعبيرا عن محبته الجارفة لمعشوقته فجاجة التعبير وغرابة التصرف هنا تشبه غرابة ان نعيش طوال حياتنا في برية دون انعكاس حضاري على ردود أفعالنا الفطرية .
النموذج الأخير في حديثي ستكون شخصية (دنكشوت دي لامتشا) رواية الاسباني الأشهر (ميغل دي سيرفانتس) تعبر هذه الشخصية عن جموح الروح وانطلاق الخيال إذ نحن أمام الحالم والعاشق المهووس مع رغبة جسدية لا مثيل لها في تحويل الخيال إلى واقع فهو الفارس القادم من زمن آخر الرشيق والجاهز لكل المخاطر ممتطيا جواده مرتديا درع الفرسان ومنتقل من بلد إلى آخر غير آبه بالأعراف وهو يصارع طواحين الهواء التي تريد ان تسرق منه عالمه الجميل وتنهي عشقه المستحيل لحبيبته إذ هو يصطدم بها دائما ويقع أرضا ومع ذلك لا يتقبل الهزيمة إذ لا يمكن ان يكون هناك عالما بديلا لعالمه المليء بالفطرة البشرية الراغبة بالانفلات والجموح. الموت أهون عليه من تقبل ذلك وفي النهاية عندما اعترف بأنه كان يهذي ويتخيل وعاد إلى رشده ، لم يعش لقد مات وكأن بموته لم يستطع أن يتقبل الهزيمة وان يتنازل عن أحلامه وخيالاته التي كان يعيش من اجلها .
أخيرا ربما العيش (كطرزان) في غابة بعيدة يبدو حلا مقبولا في ظل مآسي وأخطاء كبيرة يحياها الجنس البشري ,على الأقل تمثل الغابة طموحنا في الحياة الخضراء النظيفة والبعيدة عن دخان المدن والهواء الملوث وقتل البشر بعضهم لبعض .