الهايكو...عبقريةُ الشِّعر الياباني.. شِعرٌ مركبٌ ومثير للذكرى والعاطفة، اختراقٌ مباشر ومتصل بالإحساس بالطبيعة وماهية الحياة البسيطة والمحيرة في آن معاً.. اختزالٌ للوجود بشذراتٍ تقتنص الزمان والمكان دفعة واحدة.
تصورٌ فلسفي وجمالي ببساطة مطلقة وجمالية روحية مكثفة..انسيابُ طوفانٍ من المشاعر على مساحةٍ بسيطةٍ من الورق...تحرير للسماء والأرض من أقفاص الشكل.. إن قصائد الهايكو كأزهار كرز تحتل مرتبة عالية في التراث الشعري الإنساني.
في أوقيانوس ليلةِ السماء
تمر أمواجُ السحاب
وفوقها
سفينةُ القمر
إني أراها راحلة
في غابةِ النجوم
-هيتومارو-
إن جوهر فكرة الهايكو يكمن في لحظة الاستنارة التي تأتي بعد الاضطراب والتمزق وانقسام الوجود إلى ذات وموضوع. وفي الومضة التي يشرق فيها نورُ اكتشاف الإنسان لكينونته العميقة في هذا الكون.. يرافق الهايكو في الثقافة اليابانية شروط وانتصارات وهزائم، وله امتداد لا يعرفه الكثيرون في لغات العالم الأخرى، مثل العربية والإسبانية والهنغارية والإنكليزية والألمانية... ويندرج الهايكو في سبعة عشر مقطعاً تتوزع على ثلاثة سطور: خمسة مقاطع، سبعة مقاطع، خمسة مقاطع. وكل مقطع يشكل وحدة شعرية بذاته أي قصيدة بثلاثة أبيات فقط.. ومدة ترتيلها لا تتجاوز مدّة النَّفس الواحد:
عيناه تدمع لصراخها
الإوزات البرية وهي تبكي رحيلها
عندما ينشر فجرُ الربيع
ألوانه عبر السماء
من يسمعها
عيناه تدمع لصراخها.
-فوجيوارا شنزاي-
تبقى مفردات الطبيعة المتنوعة كالشجرة، القمر، الوردة، الفراشة، الشتاء مفردات الهايكو العريقة التي يُمرِّر بها الشاعر رؤاه عن الحياة وما يعتريها من تغير أو تبدل. وليس بوسعنا سوى التوقف برهة أمام ما يخلقه الهايكو من دهشة وقدرة على المقاربة ورؤية العالم بمنظار عميق وطويل المدى.
ريحُ الله وراء ظهري
الطلقة التي تأتي بلا صوت
حلمٌ مديد لا ينتهي..
عالياً على طول المنحدرات
أسفل الشمس:كان الماعز
يرعى النار
ينحني الموت عليّ
مسألة في الشطرنج أنا،
والحل لديه..
_ترانسترومر_
ويعود أصل الهايكو إلى نوع آخر من الشعر الياباني القديم في (القرن السابع عشر) هو الرنكا، وهو أكثر جمالاً ورونقاً، انتشر في البداية بين الأوساط المثقفة والحاكمة, بفضل (باشو)، المعلم الأول لهذا الفن بلا منازع.
ثم تطور هذا النمط الشعري خلال القرن السابع عشر وحتى الثامن عشر، وأصبح فناً حقيقياً يضفي نوعاً من الفخامة على المجالس الأدبية لكبار رجال الدولة وحاشيتها المثقفة.. وسمي بـ (هائيكائي نورنكا) أو (شعر الترفيه), ثم انتشر في أوساط طبقات المجتمع. وأضحى شعراً شعبياً يختص بالتراث الياباني وحده، وأُسقطت الأبيات الثانوية, واختُصر إلى بيت واحد أساسي.
وفي نهاية القرن التاسع عشر أطلق ماسوكا شيكي عليه اسم هايكو Haiku .
ويشكل كل باشو ماتسويو (1644-1694م) والشاعر والرسام بوسون يوسا
(1716-1783 م)، شيكي ماساوكا (1867-1902م) وناتسومي سوسيكي، الأربعة الكبار لشعر الهايكو.
أصبح نمط الهايكو،في النصف الثاني من القرن العشرين، ظاهرة شعرية عالمية. وتصدَّر في نيوزيلندا وأستراليا وأمريكا وكندا وأوربا وبقاع أخرى من العالم، مجلات مكرسة لهذا النوع من الشعر ومؤلفات وترجمات ودراسات نقدية خاصة به، كما تُعقد المؤتمرات المحلية والعالمية بشأنه، إضافة إلى التزايد الملحوظ لعدد الشعراء المهتمين بكتابته. أما في الوطن العربي فتقتصر المعرفة بشعر الهايكو على أوساط الأدباء والكتاب، وظهرت ترجمات متناثرة عنه في بعض الكتب والمجلات والصحف العربية. وثمة شعراء عرب قلائل كتبوا قصائد على نمط الهايكو:
أحبت زرقة الياقوت
كم كان وحيداً
***
أحياناً
تتركني مع كلمات
ينحتها الصمت
***
ضبابُ أزهار الكرز
رفيفُ المياه
ولمسة نور في بياض الحجر
_محمد الأسعد _
تقدم قصيدة الهايكو النموذجية صورتين متباينتين متجاورتين، لكنهما غالباً منفصلتان، تتضمنان المكان والزمان (من خلال محتوى الصورة واللفظة الدالة على الفصل).
أما الجملة الثالثة فتنعطف بهما نحو إدراك مختلف، كومضة في البرزخ الواقع بينهما لتضيء، لبرهة، كامل القصيدة بضوء عذب.
بينما تغيب ذات الشاعر عن القصيدة التي تخلو من المشاعر الصريحة، فتبثق لغة الهايكو لغة محايدة، وعادية تماماً. لكأن الهايكو (يتبرأ من اللغة) وينأى عن المحسنات اللفظية وأشكال المجاز الواضحة، وفي هذا السياق يقول يوسا بوسون: (لغة الهايكو المثالية هي اللغة المألوفة، بمنهج تجاوز المألوف، وهو أشد الأمور صعوبة). ذلك أن قصائد الهايكو العظيمة ( تنبئنا بأشياء كنا قد رأيناها، لكننا لم نتعرف إليها) كما يقول بلايث:
عندما نضع شيئاً
ظلُّ خريف
يولد هناك
جذورُ شجرةٍ صيفيةٍ ضخمة
فوق الصخرة
تمتد في كل الاتجاهات
بتلةُ كرزٍ سقطت في فمي
لم أجد شيئاً
الفراشة الأولى القادمة هذا العام
ما لونها؟
الأصفر.
_كيوشي تكاهاما
ولفرط صغر كلمات الهايكو وقصرها, لا نكاد نتيقن بالضبط ما إذا كان النص يبدأ أم ينتهي. هكذا نحن أمام تلك القصائد اليابانية.. حيث الإيجاز والبساطة، وينبغي استبعاد تعبير (الكثافة) لأنه لن يكون تعبيراً مناسباً لوصف هذه النصوص, خشية أن نتورط في توهم العمق الرمزي والتعقيد الفلسفي الذي قد نعثر عليه في نصوص قديمة وحديثة أخرى, لكن هنا في قصيدة الهايكو تكمن جمالية المعنى في البساطة التي تتجلى بصورة متناهية إلى حد التماهي مع سذاجة طفل باهرة, حيث تُشرق الصورة الشعرية في سطور ثلاثة مثل برعم الوردة, شكلٌ متشابه الظاهر متنوع الباطن, يتاح لك أن تصادف للمعنى شذى، وأحياناً نسمة، وربما موسيقا.. وتتمازج الألوان في اللوحة الشعرية بين شجنٍ مكتوم وحفيف أغصانٍ.. فراشاتٍ وظلال مساء.. وأزهار أقحوان.