إنه فخر لي ولأمتي أن يغدو ابني طبيبا بعد جد وعمل دؤوب . وكم فرحت عندما علمت بنجاحه بعد سنوات من الصبر والعمل كان يقضيها بين جنبات الكتب والمطالعة ويحرم نفسه الخروج في أيام العطل والأعياد .
تذكرتك يا ولدي عندما كنت صغيراً كنت تهتم بالأشياء الكبيرة الضخمة التي تصدر أصواتا ضخمة ولم يكن عمرك يتجاوز السنتين . عندما راعك صوت القطار وهو يدوي ويخرج عباب الدخان كان بيتنا قريبا من السكة الحديدية ومرةً خرجت من باب المنزل لترى هذه الآلة الضخمة الكبيرة وأعجبت بعظمة الإنسان الذي اخترع الآلة . وقد اصطحبتك مرة إلى محطة الحجاز بدمشق لترى تلك الآلات تسير على السكك وتدوي وعدت فرحاً مسروراً واشتريت لك قطاراً صغيراً يمشي على الكهرباء ..
ثم انتقلت إلى اهتمامات أخرى وعشت عصر "الديناصورات " الكبيرة المخفية وبدأت تقرأ عنها وعن أجناسها وأنواعها وتلتقط صورها وتجمع ألعابها لأنها وحوش كبيرة مخيفه وأصبحت تتردد إلى المتاحف لترى مجسماتها .
وأذكر أني عندما سافرت إلى جنيف واستقر بنا المقام في سويسرا . لم يكن عمرك يتجاوز ثلاث سنوات كنت ترافق أختك التي تكبرك ستنين إلى المدرسة . ومرة هممت بالدخول معها إلى فناء المدرسة , اعترضك ناظر المدرسة وقائلاً " يابني عندما يصبح عمرك أربع سنوات تأتي إلى المدرسة ... فخرجت حزينا لأنك لم تدخل المدرسة معها وما أن أصبح عمرك أربع سنوات وذهبت أول يوم إلى المدرسة عدت فرحاً مسروراً وقلت لأمك : " كل يوم سأذهب إلى المدرسة اليوم وغدً وبعد غد ... لأن في المدرسة ألعاب مسليه وأحب أن العب مع الأولاد ... " هكذا مرت السنون وكبرت إلى أن وصلت إلى المرحلة الثانوية . وكان لك شغف كبير بدراسة العلوم والفيزياء - والرياضيات. وأذكر أول مداخلة لك في الصف كانت عن الكواكب والمجرات والمجموعة الشمسية , لقد أحببت دراسة الفلك وكنت تتخيل هذا الفضاء الرحب الكبير.
فيه الأرض كوكب صغير بين ملايين المجرات وتسألني عن الشمس والقمر.. وأذكر أني أدخلتك مرةً إلى غرفة مظلمة وأشعلت ضوءاً على البطارية صغيراً سلّطته أمام مجسم الكرة الأرضية لأشرح لك دورة الأرض وتعاقب الليل والنهار . ثم أعددت دراسة عن الجراثيم والفيروسات واكتشاف العالم "باستور" أول لقاح ضدها ..
لقد أصبحت الآن طبيبا تهتم بالإنسان وتعالج أوجاعه فأحرص على أن تكون إنسانا ترأف بالآخرين ! أحبب مهنتك ! ولا تجعل منها وسيلة للربح فقط فأكسب الإنسان قبل المال . فان الإنسان يا بني يرتفع مقامه بين الناس بما يقوم من أعمال . وما يقدم من خبرات فالمريض يحتاج إلى الدفء والحنان حاور المرضى وقف على أوجاعهم . فلا تنسى هؤلاء الضعفاء وأن القوي إذا اهتم بالضعيف كبر مقامه في المجتمع وارضى ربه . فإن مهنة الطبيب قبل كل شيء مهنة الإنسان وحبه للإنسان .
و بعد أن عشت سنوات طوال في رحلتك الطويلة داخل جسم الإنسان ودرست عضويته وأمراضه ومشاكله, لابد لك أن تخرج من هذا القمقم لترى المجتمع الذي يحيط بك تفهم مشاكله ومعاناته . فالطبيب الماهر الذي يفهم المجتمع . وعليك بمواصلة القراءة والإطلاع فممارسة المهنة تقتضي المتابعة ومعرفة الجديد ولا تكن مقاولاً جشعاً يغريك جمع المال .. ولا تنسى مهمة الطبيب السامية وكم من الأطباء أصبحوا رجال أعمال ونسوا الإنسان .. الذي درسوه وعايشوه معاناته وقضوا سنوات حياتهم ليفهموا مشاكله الصحية , فالسعادة ليست في الغنى وحده لكن الغني من يفيض بمحبته على الناس ويقضي حاجاتهم ولاتكن أحمقاً تغريك حلاوة الدنيا وبهرجها . فليس للحماقة دواء كما قال الشاعر:
كل داء يستطب به إلاّ الحماقة أعيت من يداويها
ولا تنسى هؤلاء من رفاق صباك ولا تترفع وكن متواضعا فالحكيم هو المتواضع وكما قال شاعر آخر :
إن الكرام إذا ما أيسروا ذكروا من كان يألفهم في المنزل الخشن
لقد أديت قسم "أبي قراط" ووضعت نفسك لخدمة الإنسان . فكن عند مسؤولية لقب "الحكيم " ولا يغرك تلك الألقاب فالمجتمع يضحك ويصفق للقوي .
والآن .. وأنت في مقتبل العمر ستلتقي , شريكة حياتك تكتمل معها دورة الحياة وتتأهل لتبني أسرة ,فالفتيات كثر ومهنة الطبيب تغريهم لأنهن يعلمن أن الطبيب يعيش للآخرين . فاحرص في اختيار شريكتك على معايير سليمة وابحث عن الفتاة التي تفهم رسالتك وتعجب بشخصيتك وليس لقبك ومالك . وأحبب الفتاة التي تحبك لشخصك لأن الفتاة إذا أحبت ضحت كن رؤوفا محباً .. رجلا بأقوالك وأفعالك ..
ولابد أن تستفيد من أوقات الراحة بإجازات ترفه فيها عن نفسك . ففي السفر فوائد .. لقد فرحت أنك اشتركت بعدد من المجلات الطبية لمتابعة ما يستجد في عالم الطب . فكتب الجامعة لا تكفي وإنك على حظ وافر بوجود وسيلة الاتصالات الحديثة الأنترنيت التي تضعك في مستجدات الأبحاث الطبية والإطلاع تستطيع أن تسجل أفلاماً طبية ومحاضرات من كل أنحاء العالم ..
أذكر أنك كتبت مرةً في مذكراتك عندما عدت بإجازة إلى الوطن وأحببت أن تقضي وقتك بين أهلك وأقاربك .. لقد أحببت وطنك الذي مدك بالقوة وكانت رسالة شاب مغترب يعود إلى بلدة سورية ...( راجع مقالة شاب مغترب يعود إلى وطنه سورية على الرابط التالي .. http://houssami.info/jeune.htm)
وفقك الله يا بني وسدد خطاك واعلم أن رسالة الوالد لولده درساً يحفظه ستلقيه يوما إلى أولادك ليحفظوا ويجدوا .فهل تنجح يا بني بأن تعطي لأولادك الوقت الكافي بالرعاية والاهتمام كما فعل والدك ...
تسلم لوالدك المحب نبيه الحسامي جنيف – سويسرا
في 17 تشرين أول 2010