غريب أمر اللون الرمادي! فالكل يجاهر في كرهه و اتهامه له بالضبابية أو الانتهازية مع العلم بأن النتائج النهائية للنزاعات غالب" ما تكون رمادية المضمون. و بالرغم أن اللون الرمادي هو اللون الأكثر مناسبة" للونين الأبيض أو الأسود عل حد سواء, إلا أن كلا اللونين )الأبيض و الأسود( لا يشفعان للرمادي خيانته لهما من خلال اتخاذه لمواقف حيادية.
و للون الرمادي درجات مختلفة, إلى أن من أهم خصائص هذا اللون هو أنه مهما أقترب من االضدين, الأبيض أو الأسود, تبقى دائم" صيغته النهائية رمادية. و لعل اللون الرمادي هو الأكثر رواج" و شيوع" إذا ما تمت مقارنته باللونين الأبيض أو الأسود. لكن صفاته العامة من استكانة و عقلانية و بساطة تجعل تاثيرة في ساحة الألوان محدودة جد" و لا تتناسب مع حجم انتشاره.
و كما أسلفت سابق", فإن للون الرمادي ثلاث درجات وفق" للصفة التي يتحلى بها. و على الأغلب, فإن الدرجة الأكثر شيوع" هي "الرمادي المستكين" و الذي يسعى دائم" إلى النأي بالنفس عن صراعات الألوان. و أهم ما يميز هذه الفئة من الرمادية أنها تحافظ على نفس المنحى السلبي من الأحداث سواء في أيام الحرب أو في أيام السلم. فهي نفس الفئة التي لا تحضر أي مناسبة حتى لو وجهت لها دعوة رسمية و قدمت لها ضمانات و تطمينات و ذلك بغض النظر عن أهمية اللحظة التاريخية أو تأثير هذه الدعوةعلى مستقبل الألوان. و قد بقي سر أعتكاف هذه الفئة من الرمادية لغز" حاول علماء الإجتماع على مدى عصور مختلفة تفسيره دون القدرة على اكتشاف مكنوناته الحقيقية.
أما الدرجة الثانية فهي الرمادي البسيط و الذي يتميز بتواضع مستوى طلباته, فهو لا يريد أن ير تهديد" يمس خصوصيته من أي لون اّخر. و لعل هذه الدرجة من الرمادية هي الأكثر كره" من قبل اللونين الأبيض أو الأسود لانهما دائم" يخطؤن في تفسير ردات فعل الرماديين البسطاء. فإذا اتخذ الرمادي البسيط موقف" من اللون الأسود نتيجة محاولة الأخير إنتهاك خصوصيته الرمادية, فهم اللون الأبيض هذا الموقف و كأنه إنحياز" له. و ما أن يبدأ اللون الأبيض في محاولة بسط بياضه على الرمادي البسيط, عاد و ارتد عنه و هكذا دواليك.
أما الدرجة الأخيرة من الرمادية فهي "الرمادي العقلاني", و أهم ما يميز هذه الفئة هي عدم قدرتها لتحمل التطرف و الكراهية من أي طرف كان. و بالرغم من وجود رغية جامحة لديها بالإنقلاب إلى اللون الأبيض و خاصة" بعد يأسه من إدراك تحول ملموس من طرف اللون الأسود. فإن عقلانيته, غير المفهومة من قبل اللون الأبيض, تعيده دوم" إلى رماديته الأقرب للبياض و ذلك بسبب وجود رغبة كامنة لديه بتحقيق مصالحة بين الأضداد.
لقد أثبت التاريخ بأنه ليس بمقدور اللون الرمادي الانتصار على أي من اللونين, إلى أنه لا يمكن للون الأبيض الانتصار دون فهم و احتواء و استيعاب كافة درجات الرمادية و خاصة" انه يصعب على اللون الرمادي التعامل مع اللون الأسود بعد أن فقد ثقته به بشكل كامل. إلى أن اللون الرمادي لم يساوم على شلح بزته لصالح بزة أخرى ناصعة البياض, إلى انه قد يقبل بالتحول إلى بزة بيضاء بتقليمات سوداء رفيعة حتى لو كانت على حساب رماديته.