يغمرني شعور عام بالراحة و الرضا و الزهو، عائدا من عملي لمنزلي أستعرض النواحي المختلفة في حياتي، الصحة، الحالة المادية، الوظيفة، الأسرة، كلها على خير ما يرام، ســـري لا يعلمه أحد، ما زلت أحيانا بعد القدوم على الفعل تنتابني لحظات من الندم، من تأنيب الضمير، و لكن هذا مؤقت و مقدور عليه، المهم أن لا أحد مطلع على السر
أصدقائي و زملائي و مرؤسيني في العمل يكنون لي كامل الاحترام، أسرتي تحيطني بالحب و الدفء و التقدير ، زوجتي الطيبة المخلصة المتفانية، منيرة ابنتي ذات التاسعة عشرة الجميلة الذكية المتألقة، سامح ابني بسنواته العشر و شقاوته و مرحه، حياة أقرب للمثالية أحمد الله عليها، و إن كانت نفس هذه الحياة الجميلة تمثل عبئا نفسيا علي بعد إقدامي على الفعل، حيث ينتابني شعورا غلابا بأني جاحد، فرغم ما أتمتع به من نـِـعـَـم ما زلت أرتكب الفعل، و كلما عاهدت نفسي و عاهدت ربي أني لن أكرره بدافع من شعوري بالذنب و باعترافي بنعم الله علي في نفس الوقت كلما عدت إليه منقادا صاغرا كمدمن لا يستطيع الفكاك.
وصلت للمنزل، حييت زوجتي، داعبت سامح، منيرة في حجرة الجلوس تقرأ كتابا، لم تلتفت لوصولي، اقتربت منها و قلت:
ـ كيف حال جميلتي؟
أزاحت الكتاب جانبا و نظرت لي، النظرة التي لم و لن أنساها، عيناها واسعتان جميلتان مليئتان بالألم و الدهشة و العتاب، وصلتني الرسالة فورا، واضحة مخزية مؤلمة، لقد انكشف سري، انكشف لابنتي حبيبتي التي تعتبرني مثلها الاعلى و تجمع بيننا صداقة قلما ربطت أب بابنته، لم تتفوه بكلمة، أنا أيضا انتابني الصمت و انسحبت، انفردت بنفسي أحاول استيعاب الموقف، أسئلة عديدة تدور في رأسي، أولها: هل فعلا كشفت منيرة سري؟ أكاد أجزم من نظرتها و من ملامح وجهها أنها كشفته و أنها مصدومة متألمة مجروحة، هل هناك احتمال أن النظرة و ملامح الألم على الوجه لهما سبب آخر؟ حاستي الأبوية و علاقتي الوطيدة بابنتي تمكنني من قراءة أفكارها، أفكارها التي تدينني و تعتب علي و لا تصدق ما يحدث، لا ليس هناك سبب آخر و لكنه السر الذي كشفته، هذا الاكتشاف الذي حطم من لحظات جنة العلاقة الجميلة التي احتوتنا لسنوات.
السؤال الثاني هو كيف؟ كيف عَرَفَت ما عَرَفَت؟ كيف عرفت ما أحرص على كتمانه و ما نجحت فعلا في كتمانه عن الجميع لعدة سنوات، هل تصرفت أنا بطريقة توحي بما أفعل في الخفاء؟ هل هناك أعراض تبدو علي توشي بفعلي؟هل سيمكنني أبدا معرفة الرد على هذا السؤال؟
و أخيرا، كيف سيكون رد فعلها في الأيام و السنين القادمة؟ هل ستحكي لأمها ما تعرف؟ هل ستعاملني معاملة الصمت فلا تتحدث معي رغم وجودنا تحت نفس السقف؟ هل ستصارحني بما عرفت و تلوم علي و تعبر عن مشاعرها الجريحة؟
جلسنا معا للغذاء، حاولت أن أبدو طبيعيا، تحدثت في مواضيع مختلفة مع زوجتي و ابني، تجنبت الحديث مع منيرة و تجنبت هي النظر لي، بعد الغذاء خرجت على غير عادتي، كأني أتجنب و جودي في نفس المكان معها و مع أحاسيسها الجريحة.
الأيام التالية شاهدت تغير مؤلم في علاقتي بمنيرة، تتجنبني، لا تنظر لي، عندما أختلس النظر لها أجد ملامح الألم مرتسمة على وجهها، لا تبادلني الحديث و إن كانت ترد ردود مؤدبة مقتضبة على أسئلتي، الغريب أن زوجتي و سامح لم يلاحظا أي تغير عليها، هل هما على هذا القدر من الغفلة؟ قد يكون سامح بسنواته العشرة صغيرا و لا يدرك ما يحدث حوله، و لكن زوجتي؟ ألم تلاحظ تغير في تصرفات ابنتها حيالي؟ فكرت في أن أسأل زوجتي عما إذا كانت قد لاحظت تغير في طباع و مزاج و تصرفات البنت، لكني قررت ألا أفعل فقد يقود تساؤلي إلى إثارة أمور أنا في غنى عن إثارتها.
قررت الامتناع عن ممارسة الفعل، كنت قد قررت هذا الأمر عدة مرات من قبل و لكن في كل مرة تضعف إرادتي اللعينة و أعود إليه، الآن هناك حافز قوي هو معرفة منيرة بما يجرى، هل توبتي ستصل إليها مثلما وصل إليها إثمي؟ ارتحت داخليا لهذا القرار، قد يكون معرفتها بالأمر هو رسالة ربانية لي كي أمتنع، مضت عدة أسابيع و أنا ملتزم بالامتناع عن الفعل، لاحظت أن علاقتي بمنيرة بدأت ببطأ في العودة لما كانت عليه من قبل، لأول مرة منذ معرفتها بالسر بادرتني الحديث، عيناها بدأتا بالتدريج التخلي عن نظرات اللوم و العتاب و الألم، و لكن في لحظة ضعف من لحظات الضعف العديدة في حياتي عدت للفعل، عدت للإثم و ما يتبع ذلك من ندم فألم، من تحسب فترقب، ترى أستعرف منيرة بما جرى، يا له من خزي أن أخاف من ابنتي، لعل معرفتها السابقة كانت محض صدفة، أعتقد هذا، أرجو هذا، أرتاح لهذا، لكن عندما رأيتها تكرر ما حدث من عدة أسابيع، هكذا مباشرة بوضوح لا تخطأه روحي المعذبة تكررت نظرات منيرة لي، نفس العينان الواسعتان الجميلتان مليئتان بالألم و الدهشة و العتاب مضافا لهم خيبة الأمل ، الأمر إذن واضح، صغيرتي كشفتني، ليس المهم الآن كيف، بل أعتقد أني أعرف، فبالتأكيد عندها قدرة غيبية تجعلها تعرف ما يجري، هذا في حد ذاته مخيف لا أدري ما حدوده، انزويت بعيدا عنها أجتر عاري، بالتأكيد المشاعر الحميمة التي كانت تكنها لي قد تحطمت، يا للخسارة على العلاقة الجميلة التي كانت بحوزتي و فقدتها، ما النهاية؟ لا أعرف، هل أحاول مرة أخرى أن أمتنع عن الفعل؟ هل سأنجح؟
و يمر الزمن، بالتحديد سنتين و الدائرة الجهنمية تتكرر، ارتكابي للفعل، شعوري بعدها بالندم و الألم، الألم الذي ينتقل مباشرة لإبنتي و ما يتبعه من برود مشاعرها نحوي، مما يدفعني لاتخاذ قرار بالامتناع و التوبة ثم ضعف إرادتي و عودتي للفعل. ترى أهناك تأثير دائم لهذا على نفسية منيرة، أعتقد أن ما عدا علاقتها بي حياتها تسير تقريبا كالمعتاد، صداقاتها، علاقتها بأمها و أخيها، ممارساتها للأنشطة المختلفة، أيضا أدائها الدراسي لم يتأثر فما زالت متفوقة في كليتها، فقط علاقتها بي التي تأثرت بل تحطمت، صاحب ذلك أنها أصبحت أكثر هدوءا و أقل مرحا كأن إثم أبيها أضاف سنين عديدة لعمرها.
أتذكر في إحدى جلسات العائلة التي جمعت أربعتنا أني بدأت الحديث عن عملي، كانت هذه أول مرة أتحدث أمام عائلتي عن العمل، انصب الحديث عن بعض إنجازاتي و نجاحاتي، وقد أكون بدأت الحديث لأني أحاول بطريقة لاشعورية أن أقنع منيرة أني ما زلت مميزا، ما زلت إنسان قادر و عاقل و صاحب حياة ثرية، سري الذي كشفته هي يمثل جزأ ضئيل منها، جزأ مظلم آثم قبيح و لكنه ما زال جزأ من كل كبير مليء بالنواحي الإيجابية، نظرت إليها لأرى أثر حديثي، وجهها جامد، هناك شبح ابتسامة ألم عليه كأنها تقول لي "لا تحاول فقد سَقَطْت من عيني"، سقطت من عينيها أعتقد أن هذا هو خير وصف لمشاعرها نحوي و التي احتوتها من اليوم الأول لمعرفتها سري، لذلك تعمدت خلال السنتين الماضيتين ألا أوجه لها أي نصيحة حتى لا يبدو الموقف عبثي يوجه فيه الآثم النصح للآخرين كي يعيشوا حياتهم بطريقة فاضلة.
تخرجت منيرة من الجامعة متفوقة كعادتها، بعدها بعدة أسابيع أخبرتني أنا و أمها عن شاب يرغب في التقدم لنا لطلب يدها، سارت الأمور بعد ذلك بسرعة، عثرت منيرة في نفس الفترة على وظيفة ملائمة، قلت لنفسي "حسنا، حياتها الخاصة الآن أصبحت مزدحمة، لعل ذلك يبعد تفكيرها عن سري" في أثناء النقاش بينها و بين أمها عن ترتيبات حفل الزفاف و عن متطلبات منزل الزوجية كنت بطريقة غير شعورية آخذ صفها عندما تختلف مع زوجتي، كأنني أحاول رشوتها، أو أحاول التعجيل بمغادرتها للمنزل، هل لاحظت ذلك؟ هل قلل ذلك من برودة مشاعرها نحوي؟ لا أعرف و لا يهمني أن أعرف فوسط دوامة الأحاسيس و الأحاسيس المضادة التي أحاطت بي في السنتين الأخيرتين و بين الفعل و الندم اللذان استمرا كالقدر المكتوب علي أصبحت نفسيتي منهكة و داخليا فقدت الطريق، و إن كنت في الظاهر أتظاهر بأني طبيعي عادي مرح إجتماعي، عندها اكتشفت كم أنا ممثل بارع بائس.
بعد انتهاء حفل الزفاف و في طريقها مع زوجها لقضاء شهر العسل و التي ستعود منه على منزل زوجيتها شددت على يدها ثم احتضنتها و قبلتها، نظرت لها أطلب منها الصفح و الفهم، أجابت نظرتها "فليسامحك و ليساعدك الله".
شعر الجميع بالفراغ بعد ترك منيرة المنزل، الفراغ الذي شعرت به أنا كان بلا شك يحفه نوع من الراحة، الراحة من الضمير الذي اعتاد أن يتجسد لي في منيرة، الراحة من اللوم و العتاب الصامت.
عندما ارتكبت الفعل من جديد كان الموضوع نفسيا أقل قسوة، عدت للمنزل في حالة من انعدام الوزن النفسي، حييت زوجتي، ابني سامح كان في حجرة الجلوس يقرأ كتابا، لم يلتفت لوصولي، داعبته قائلا "كيف حال الولد الشقي" نظر لي نظرة لن أنساها بعينيه الواسعتين الجميلتين المليئتين بالألم و الدهشة و العتاب.