كلما أمسكت القلم راغبة في كتابة إحدى
الأفكار التي تعتلج صدري والمتعلقة بالظروف الراهنة التي نعانيها في بلدي الجريح
سورية، أعود لأكتب عن الخبر الذي قضّ مضجعي منذ سمعته على قنوات الإعلام...وما
أكثرها الأخبار التي تقض مضاجعنا هذه الأيام!!
لم أعرف كيف أعبر عن هذا الموضوع إلى أن لفت انتباهي بالأمس تعليق منقول من إحدى
الصديقات على صفحتها في الفيس بوك والذي ينص:
"أنا نصف لبنانية، وصلتني هذه القصة وأردت أن أكتبها معاتبة:
سافر أحد رجال الأعمال السوريين إلى لبنان خلال الأزمة في سوريا بعد أن هُدّد مراراً وتهدّمت معامله، اختار لبنان ظناً أنه سيلقى الترحيب، واصطحب عائلته وأولادهم، واستقروا بأن استأجروا أفضل البيوت واختاروا المدارس المعروفة بغلاء أسعارها لأولادهم. إلى أن جاء اليوم الذي دعا فيه كل العائلة للغداء في أرقى وأفخر المطاعم الشهيرة هناك، وهنا القصة، فحين طلب الفاتورة وصلت مزيّلة بحسم خاص للنازحين السوريين!!!
هنا استشاط رجل الأعمال السوري غضباً وقذف بالطاولة التي أمامه لتحصل معمعة كبيرة
ومشكلة أدّت إلى تجمع الناس لتنتهي باعتذار مدير المطعم شخصياً!!"
هنا تنتهي القصة لتتهافت التعليقات والعتاب على إخوتنا اللبنانيين بسبب المهانة
التي لحقت رجل الأعمال بوصفه نازحاً ساخرين من مقامه وجاهه!!!
علّقت على النص بقولي: - أنا لا أجد اساءة في عمل حسم للسوريين، وأنا مندهشة من ردة
الفعل العنيفة التي قام بها هذا الرجل! وأتساءل متى سنتعلم الرد على ما نعتقده
إساءة بالحلم والأدب؟!
فجاءني رد من أحد الأشخاص أن المزعج هو وصفنا بالنازحين وكان ينبغي تزييل الفاتورة
بحسم للإخوة السوريين.
أجبته: - ليس مسيئاً أن نوصف بواقع ما نحن عليه وما لا ذنب لنا فيه.
ليصلني رد رفيقتي التالي: المطعم كان يقصد الإهانة تحديداً، فمن يدخل هذه المطاعم الفاخرة ليس بحاجة للحسم والمساعدة، ما تعرض له رجل الأعمال هو السخرية.
هنا استشطت غضباً ورددت: - السخرية الحقيقية هي وجود أمثال هذا الثري السوري الذين
يدخلون مطاعم فاخرة في لبنان تزامناً مع وجود سوريين آخرين ينتحرون بسبب عجزهم عن
إعالة أسرهم، لا بدّ أنك سمعت عن السوري الذي شنق نفسه قهراً بعد أن عجز عن اطعام
أولاده، لينهي مأساته خالداً في جهنم، تاركاً اسرته دون معيل في أحد المخيمات
اللبنانية!!
والله لقد قضت هذه القصة مضجعي متسائلة عن حال أسرته الآن وعن حال كل التعساء الذين
يعجزون عن تأمين لقمة العيش لأولادهم في ظلّ الظروف القاهرة التي نعيش!.
كم أحتقر هذا الرجل الذي أحس الإهانة بسبب حسم فاتورته دون أن يستشعر الخجل
والإهانة الحقيقية من تقاعسه عن نجدة إخوته ومساعدتهم، على كثرة المنكوبين في سوريا
وما حولها الآن!!
أليس ما نحن به من بلاء يساهم به الأثرياء بسبب إسرافهم الشديد وشحهم الشديد،
اسرافهم على أنفسهم وشحّهم على المحتاجين.
هنا ترجع بي الذاكرة إلى مناقشات وحوارات كانت تدور بين أهلي حول قضية التأميم في
عهد جمال عبد الناصر، الأمر الذي لا يزال يعتبره أهل حلب دمّر سوريا اقتصادياً. كنت
أبدي رأي ببساطة قائلة:
- ما قام به الناصر (علماً اني لست ناصرية) هو ما وجده مناسباً في عهد طبقي ينعم به
البرجوازيين بثراء فاحش النظير، بينما يعيش معظم العاملين من سواد الشعب حياة
الكفاف. هذه الخطوة لم تكن حلاً سليماً ولكنها بنظره كانت كذلك، كيف لا وهو ابن
الشعب البسيط الذي استقبلته أسرة من حلب ومدّت له السجاد الأحمر العجمي من المطار
وحتى قصرها، ثم قدمت له الطعام بصحون وملاعق من ذهب!!! بقناعتي أن ما حصل للأثرياء
أصحاب رؤوس الأموال بالتأميم كان عقاب من الله عزّ وجلّ.
على كل حال، ليست المأساة الحقيقية بما قام به عبد الناصر، ولكن بمن جاء بعده! فعبد
الناصر حكم فترة زمنية قصيرة الأمد، لكن من تسلّم السلطة بعده لم يشكّلوا علامة
فارقة، لم يبنوا، لم يصنعوا، لم ينهضوا بالشعب ولا البلد. كلنا يعلم أن سورية في
الخمسينات والستينات كانت أكثر اشراقاً وحضارة وحضوراً.
ألخص سطوري راجية من كل سوريّ أن يبحث عن الأسر المحتاجة، وما أكثرهم حولنا من
أرامل وأيتام ومنكوبين، أن نمدّ لهم يد المساعدة على قدر المستطاع، فنحن لن نجد
الله في عوننا ما لم نجتهد في عون بعضنا.
أما ذلك الثري، فليقلب الطاولات ويفتعل المشكلات، أليس ما وصلنا إليه من حال ليس
إلا بسبب غطرسة الأسياد ونظرتهم الفوقية المتعالية على شعبهم وعلى الاخرين؟؟؟ هم لا
يفقهون من قوانين الحياة إلا عروشهم يستميتون للبقاء عليها، حتى لو دعا ذلك أن
يسجلوا على صفحات التاريخ ظلماً واجراماً وسفكاً للدماء لم يسجله غزاة المغول
والتتر.