news edu var comp
syria
syria.jpg
مساهمات القراء
عودة إلى الصفحة الرئيسية
 
الأرشيف
أرشيف المساهمات القديمة
مقالات
قشة الخلاص ...بقلم : رياد عازار

لقد ترددت كثيراً قبل أن أزيف هذه المقالة لا لشيء سوى لأنني أعتقد أن العمل الفكري عقيم عندما يكون تحت ضغط الأحداث والأزمات وما أشاهده وأسمعه حالياً يدل على أن الغالبية الساحقة لمن يتصدون للمشكلة هم إما أولاد الأمس أو أسيرو لمعتقدات وأفكار سأحاول هنا أن أتصدى للبعض منها.


 لقد عملت في مجال الإصلاح أكثر من ثلاثين عاماً سواء من خلال عملي المهني أو من خلال الندوات والجلسات الفكرية ورغم النجاحات الهائلة فقد كنت دوماً أشعر بأنني أسير نحو الخلف ولكن هذا لم ولن يثن من عزيمتي لأن الإصلاح قدرنا, لن يكون هذا المقال لا شاملاً ولا مقنعاً لمن بيت العزم، ولكنه قد يكون ملهماً لمن يسعى حقاً للخلاص من هذا التخبط.

 

سأبدأ أولاً بمراجعة تاريخية بسيطة لا لشيء سوى أن الكثير منا يبني أفكاره الحالية على رؤية مجتزأة ومعاصرة لا تخدم سوى إلى زيادة البلبلة والضياع, بعد ذلك سأنتقل إلى تقييم لما هو معروض في سوق الأفكار قبل أن أستعرض ما هو غير متوفر في هذا السوق  لقد بدأت أزمة الحكم العربي (وليس الإسلامي لأن واقع بعض الدول الإسلامية مختلف جذرياً) لحظة وفاة الرسول الكريم. فهو قد مهد لنشوء دولة جديدة تجمع العرب ولكنه لم يضع أسس استمرارية الحكم  وقد استطاع أبو بكر وعمر تجاوز الأزمة الوليدة بفضل مكانتهما ودورهما خلال حياة الرسول، ولكنها تفجرت من جديد خلال حكم عثمان الذي فقد شرعيته لأسباب تتعلق بسوء الإدارة والفساد (ما أشبه الأمس باليوم) ومع مقتله انتهت المرجعية إلى غير رجعة.

 

إن الشورى التي يزعم الاسلامويون أنها قاعدة شرعية لتولية الحاكم كانت أصلاً متبعة في المجتمع القبلي وهي تعني تزعم الأكبر والأغنى من بين شيوخ القبيلة مدى الحياة. وإذا عدنا إلى تطبيقها في بداية الإسلام نجد أن فحوى جدال سقيفة بني ساعدة هو الاستئثار بالخلافة لصالح حزب أو فريق دون آخر (منا أمير ومنكم أمير-منا الأمراء ومنكم الوزراء….). أما أبو بكر فقد عين عمر خليفة له، رغم معارضة الحفنة القليلة من الأشخاص الذين استشارهم  وعمر حصر الشورى في ستة أشخاص و كان يفضّل أن يعهدها إلى أبي عبيده بن الجراح لو كان ما يزال حياً.

 

 أما بعد ذلك فأصبحت وراثية بقوة السيف و الأمر الواقع  لقد جاء الفتح العربي إلى بلاد الرافدين والشام وشمال إفريقيا تخضع لحكم أجنبي استمر تسعة قرون متلاحقة (أي منذ غزو الاسكندر)  ونتيجة هذا الاحتلال الأجنبي المتواصل أمست حضارة بابل وكنعان ومصر تحت الرماد وانقطع كل اتصال فكري أو بنيوي لشعوب هذه المنطقة مع ماضيها المشرق. بالمقابل، كانت المنطقة تضج بأفكار مسيحية معارضة للتيار الملكي الذي تتبناه القسطنطينية ولا تعكس رؤية أهالي المنطقة للديانة التي كانوا هم روادها الأوائل وعلى يدهم تتلمذت باقي الأمم.

 

وبحلول القرن السابع الميلادي كان على أغلب سكان المنطقة أن يخضعوا لتفسيرات و لرؤى عقائدية وأخلاقية لا تعكس آرائهم وآراء زعمائهم الروحيين بل ما يمليها عليهم حفنة من الكهنة المقربين من الإمبراطور البيزنطي. أما قلب الجزيرة العربية فكان يعيش في حالة تخبط وتقاتل والأهم من ذلك، تناقض بين كبرياء لا حدود لها، وخنوع لسلطة القوى العظمى لذاك العصر( فرس وروم)  فهذه القبائل المتمردة كانت مجبرة على تأمين حركة القوافل التجارية لهذه الدول وعدم الاعتداء عليها خوفاً من المعاقبة التي بمكن أن تتعرض لها من قبل أتباع هذه القوى من مناذرة وغساسنة. ولدينا شواهد كثيرة لإرهاصات الشعور "القومي" الذي بدأ يتبلور في القرن السادس.

 

 من أهم هذه الإرهاصات هي الكعبة وشهور الحرم وسوق عكاظ وأخيراَ الأحداث التي انتهت بمعركة ذي قار  في هذه الظروف، جاءت الدعوة المحمدية لتوحد هذه القبائل من خلال استبدال آلهتهم بإله مشترك، وبدين جامع لما لديهم من قيم ولاغ لما يفرقهم من معتقدات شاذة من أصنام وبدع "وثنية". ومع نجاح أبو بكر بالقضاء على معارضي هذا المشروع التوحيدي أصبح الانتقال إلى مهاجمة القوى العظمى ونجدة أولاد العمومة في بلاد الرافدين والشام أمراً محتماً.لقد غال المفكرون المعاصرين كثيراً بدور الإيمان والعقيدة في الفتوحات الإسلامية حتى أن بعضهم ممن يدعي الموضوعية يجزم بوحدانية هذا العامل دون أن يكون لديه أدنى إطلاع على تاريخ مملكتي الفرس والروم لتلك الحقبة.

 

 إن نتيجة هذه المغالطة التاريخية هي واحدة من أسباب التخبط فكري الذي نعانيه الآن  فبالعودة إلى المصادر العربية الأقرب لحقبة الفتوحات لا نجد إلاَ تلميحات خجولة لهذا العامل بل إن دراسة تاريخ مملكتي الفرس قبل وخلال فترة الفتوحات تلقي إضاءات واضحة على الأسباب الأساسية لنجاح الموجة الأولى من الفتوحات  فعدا السبب "القومي" الذي أشرنا له سابقاً وكره مسيحيي الشرق للسلطة الملكية، كانت المملكتان منهكتين من حروب متواصلة استمرت ثلاثون عاماً حوصرت عاصمتهما لعدة سنوات وهددتا بالدمار في نفس الوقت.

 

 وخلال الفتوحات كان على بيزنطة أن تجابه خطر أكبر قادم عبر الدانوب، ألا وهو القبائل السلافية الجنوبية من كروات وصرب  أما في فارس فقد كان العرش خاو وتقوم على إدارته أميرة بلهاء  إن هذه العوامل لا تلغي أثر الإيمان  فجميع الجيوش الفاتحة كان لديها إيمان بقوتها وحقها و بنصرها وبأشياء أخرى عديدة. ألم يكن لجيوش الإسكندر أو جنكيز خان إيمان ما، أدى لانتصارهما على جيوش تفوقهم عدد وعدة.

 

 إن الانتصارات العسكرية ليست دليل على تحضر أو حسن إدارة الدولة  فالكثير من القبائل البربرية قامت بتوسع ساحق وسريع ولكنه لم يدم طويلاً  فأتي لا اجتاح أواسط آسيا والأورال وعبر أوروبا وطرق أبواب روما في فترة قياسية تفوق أي فاتح آخر وجنكيز خان أقام إمبراطورية تمتد من كوريا إلى أبواب موسكو وبغداد ولكنها تجزأت إلى خمس ممالك في أعقاب وفاته، وكذلك كان حال الاسكندرو لا شك أن العرب استطاعوا أن ينجزوا أفضل بقليل من هؤلاء الفاتحين  فالدولة الموحدة استمرت حولي المائة عام فقط (إلى أيام أبو جعفر المنصور) مع خروج أفريقيا (القيروان) والمغرب والأندلس بشكل كامل عن سيطرت الحكم المركزي . إن قارئ تاريخ الحقبة الأموية ينبهر بالانتصارات العسكرية وتوسع الفتوحات ولكنه يتجاهل أن هذه الدولة كان مشكوك بشرعيتها من قبل الأقربين قبل الأبعدين، وأن الحروب الداخلية لم تهدأ خلال حياتها  فالحركة الشيعية التي بدأت بالتبلور لم تكن فريدة في مواقفها، بل إن حركات أبن الأشعث والزبير والمختار و ابن الزرق وغيرهم والحروب القيسية-اليمنية والثورات المتتالية في المغرب كانت أشد وطأة على كيان الدولة من الحراك الشيعي.

 

إن إحصاء بسيط لأهم حركات العصيان التي ذكرها المؤرخون نجد أنها تفوق المائة والعشرين حركة خلال فترة تسعين عام. لقد انقلب العباسيون على الأمويين بحجة الشرعية و لكنهم لم يكونوا لا أكثر شرعية ولا أقل عنفاً منهم، وعصرهم الذهبي كان مليئاً بالثورات والانفصالات أيضاً. فبعد الأندلس كان دور المغرب والقيروان ثم عمان وما وراء النهر وفارس. أذكر هذه الأحداث لا لأحاسب التاريخ، فالتاريخ لا يحاسب، وما جرى قد جرى ولكن لأهاجم من يدعون العلم ويلقون باللوم على الآخرين. فتارة يتهمون السبأية وطوراً العجم ثم الأتراك و أخيراً الغرب ومستقبلاً الصينيون.

 

 إن من حق الخصم والغريب أن يستفيد من نقاط ضعف مجتمعنا ولكن من واجب النخبة المثقفة أن تقلل من حدة الأزمات وتتنبه وتهيئنا للمخاطر المحدقة و أن تتقي هجمات الآخرين بتحالفها وبتدخل معاكس في آن. إن جميع المجتمعات تعاني من مشاكل داخلية ومن أزمات في الحكم والإدارة والفساد ، و لكن عدم محاولة معالجة هذه الأمور والتقليل من حدتها، يفتح المجال للصديق قبل العدو لاستغلالها ليس فقط لإضعافنا ولكن لحل مشاكله على حسابنا أيضاً.

 

لا شك أن العرب كانوا أكثر من فاتحين ومحاربين  فمنذ اليوم الأول لوصولهم إلى أرض العراق قاموا بتشييد مدينتي البصرة والكوفة وقاموا بتأسيس بعض الإدارات التي تخدم أهداف الدولة الجديدة ( على رأس هذه الإدارات ديوان الخبر "المخابرات"). ليس هدف هذا المقال ذكر ما قام العرب بإنجازه وما لم يقوموا بإنجازه. ولكن نأسف لعدم الإضاءة على الدراسات الجدية النادرة التي تعالج هذا الموضوع وخاصة الدراسات التي تسلط الضوء على بعض نواحي الضعف التي أدت إلى الانهيار السريع لهذه الدولة  وهنا أعود إلى ذكر النظرة التقليدية المضحكة التي تلقي كل اللوم على شخص ما أو مستوى الإيمان أو مؤامرات أجنبية وأعجمية.

 

لقد استفاد العصر العباسي الأول من منجزات الأمويين كما أستمر أثر منجزات العصر العباسي الأول لقرنين من الزمن وحتى نهاية الحروب الصليبية، ولكن الانهيار السياسي الكامل حدث قبل ذلك بكثير، وتحديداً خلال القرن العاشر عندما أصبح النظام المعتمد هو النظام الإقطاعي بامتياز وانتشر دعاة السلطة والإصلاح الديني كالنار في الهشيم، مما أدى إلى تفتت فكري وأخلاقي بعيد المدى مازلنا نشهد آثاره إلى هذا العصر  لا شك أن مرحلة الحروب الصليبية هي نقطة التحول الحاسمة في تاريخ هذه المنطقة. ليس بسبب نتائج المعارك، ولكن لأنهم تعلموا ولم نتعلم. فالوضع السياسي المتفكك في هذه المنطقة كان يقابله وضع سياسي مماثل في الغرب.

 

والوضع المعرفي كان يميل لصالحنا، أما الوضع الإيماني أو العقائدي فكان عديم القيمة لدى الجانبين  لكن ما حدث أثناء هذه الحروب هو اكتشاف الغرب لأهمية التجارة والسيطرة البحرية، فاقتبس الغرب ثم طور الكثير من المعارف البحرية والتجارية (كتاب الماجستي جرى تأليفه بطلب من الملك روجر النورماندي وليس من حاكم عربي)، وتدريجياً بدأت المدارس الكهنوتية بتدريس علوم الطب والجغرافيا وغيرها في حين زاد أدعياء المعرفة الدينية ،في هذه المنطقة، من شدة قبضتهم على مقاليد الأمور  وبدل من زيادة عدد المدارس والمراصد الفلكية جرى التركيز على بيوت العبادة والتكيات وأصبح شغل الفقهاء المماحكات الفكرية والمتاجرة بإيمان العباد.

 

بالطبع لم يكن الغرب خال من هذه العيوب ولكن التحول كان قد انطلق، ليستمر دون توقف حتى يومنا الحاضر  وبحلول القرن الرابع عشر نشأة المدن الإمبراطورية مثل جنوة والبندقية، اللتان كانتا تتحكمان بتجارة واسعة وتملكان ثروة طائلة تمكنهما من شراء المرتزقة والرهبان و المفكرين (ما أشبه اليوم بالأمس). لكن الأهم من ذلك هو حدوث الثورة الفكرية الأولى، ألا وهي علم التجريد الرياضي وما رافقه من رمزية في كتابة العلاقات الفلكية والحسابية (علماً أن العرب هم الذين بدؤوا به لكن لم يعرفوا الاستفادة من). تلا ذلك ثورة جغرافية وبحرية مكنت بعض دول الغرب من الحصول على ثروات طائلة وتحطيم السيطرة التجارية لدول هذه المنطقة ( وهنا أيضاً يقال أن للعرب دوراً، لكنهم لم يعرفوا كيفية استثماره. فكانت السفن البرتغالية تدور حول أفريقيا و أمراء المغرب العربي يستمتعون بمراقبتها).

 

ثم جاءت الثورة الفكرية الثالثة وهي الثورة الدينية التي وضعت حداً لشيطنة رجال الدين و على ألاعيبهم السياسية وبروز دور الحاكم الديكتاتوري. لقد كان هدف الأول للحكام الديكتاتوريين المحافظة على قوة بلادهم لأنها تمكنهم من الحفاظ على حكمهم وذلك باستخدام جميع الطاقات المتوفرة بين أيدهم. وعلى رأس هذه الطاقات كان العلم وليس المال  فالمال كان وسيلة للحصول على العلم والمعرفة التي أصبحت تعني القوة التي تجلب المال  لقد رافق هذا التحول بدء بروز المؤسسات الوظيفية بشكل مواز للمؤسسة الدينية، وإن تداخل دورهما في كثير من الأحيان.

 

فتحجيم دور الكنيسة لم يحن أوانه بعد، كما أن الكنيسة شعرت بضرورة التحول بعد نشر مارتن لوثر لإعلانه الشهير  على رأس هذه المؤسسات تأتي المؤسسات العسكرية والتعليمية والقضائية. فلم تعد الجيوش مجرد جمع من الرعاع القبليين والموسمين، يقودهم عدد من الفرسان المدربين، بل طلاب يتدربون في مدارس مهنية شبيهة بمدارس المماليك التي أنشأها صلاح الدين مع فارق المستوى التقني وفي طريقة دفع المرتبات والتجهيز  أما المدارس المهنية فأصبحت الوسيلة الفعالة لتأمين جيش من الكوادر التي تحتاجها آلة الدول الناشئة في الغرب.

 

 ومع مرور الزمن زادت أهمية هذه المؤسسات حتى أنها أصبحت هي الدولة، ونادراً ما حدث تعارض بين الآلية الداخلية لعمل هذه المؤسسات وببن الحاكم الديكتاتوري الذي تقلص دوره تدريجياً. إن هذا التحول لم يكن ممكناً لولا الثورة الفكرية الرابعة، ألا وهي الثورة العقلانية، التي يعتبر ديكارت ذروتها  هذه الثورة وضعت لجميع الأمور الحياتية مناهج عقلانية تسمح بتحليلها ودراسة منحى تغيرها وبالتالي التنبؤ أو التأثير على مستقبلها. لاشك أن بذور هذا الفكر كانت موجودةً في السابق وعند بعض الموسوعيين العرب ولكن هنا جرى رمي هذه الأفكار في القمامة من قبل جحافل بني هلال وسليم وعصابات المماليك وغيرهم.

 

 أخيراً جاءت الثورة الصناعية ثم الثورة الكهرومغناطيسة ثم الثورة الإلكترونية (في بداية القرن العشرين) ثم الثورة الفيزيائية الثانية وثورة الطيران ونحن ما نزال نيام نفكر وننتج ببقايا وسائل الإنتاج التي أوجدها السلف. فلم يعد بإمكاننا صيانة الساعات المائية والطواحين والنواعير التي شيدت سابقاً، فاندثرت. وعادت الجمال لتصبح وسيلة التنقل الوحيدة بعد أن اختفت العجلة والعربات  ومدارس الطب أصبحت بيد علماء الفقه والمشعوذون، والأمور الحسابية أصبحت تقديرية وتتم بالفهلوية والشطارة ولم يبق لدينا إلاً المماحكات الدينية وبعض الشعر ومهنة حلاقة الشعر والطبخ. وخلال هذه الثورات الفكرية والعلمية المتلاحقة حققت دول الغرب ثلاثة أمور .

 

الأول: استعباد مباشر أو غير مباشر لأغلب شعوب ما يدعى الآن العالم الثالث (إضافة إلى الطبقة الأدنى من شعوبها)، وإبادة شعوب بكاملها في الأمريكيتين (لا يقل عدد الهنود الحمر الذين أبيدوا خلال 400 سنة عن 150 مليون نسمة، إضافة لعدد مماثل من شعوب إفريقيا) مما مكنها من تكديس ثروات طائلة سمحت لها بتمويل مغامراتها العلمية التي أدت لتلك الثورات.

 

 الثاني: هو بناء المؤسسات التي سبق الإشارة إليه، والتي بلورت في النهاية نظام سياسي متين يقاد من قبل القوى وشبكة المصالح المتناغمة لهذه المؤسسات. وكان أساس هذه الشبكة العائلات النبيلة وعلاقات الزواج بينها، لتتوسع تدريجياً إلى الأغنياء وأفراد الطبقة الأرستقراطية ثم البرجوازية. وقد يجهل الكثيرون أن البرلمان البريطاني كان مؤلفاً من مجلس اللوردات فقط وأن العديد من البرلمانات الأوروبية تشكلت بشكل مشابه وأن مجلس العموم (Commons) كان يقصد به مجلس الرعاع وبدأ بصلاحيات محدودة جداً. ولم تتوسع هذه الصلاحيات ولم يصبح من حق المرآة التصويت إلاً بعد الحرب الكونية الأولى.

 

 الثالث: هو محاولة وضع نظام سياسي يسمح باستمرارية سيطرة شعوب الغرب ويحد من تناطحها. وكان أساس هذا النظام هو شبكة من العلاقات الاقتصادية العابرة لمفهوم الدولة ترعاه تحالفات دولية (دول الغرب) ومؤسسات مشتركة. لقد تفاوت نجاح تطبيق الأمور السابقة بين الكيانات الأوروبية خلال القرون الخمسة الأخيرة. فلم تكن مؤسسات جميع هذه الكيانات على نفس الدرجة من الصلابة. وبعض التناقضات الاجتماعية كانت تتفاقم بأسرع مما تستطيع البنية المؤسساتية أن تمتصه. فغالبية المجتمع كانت خارج هذه البنية وكان لابد من ابتداع وسيلة تقنعها بجدوى المنظومة.

 

أما الخطر الأكبر، فكان حدوث أزمات متتالية في النظام العالمي، إما نتيجة عدم التعشيق الجيد بين بعض عناصر المنظومة ، أو نتيجة تغيير ميزان القوى لعناصر هذه المنظومة مما ينتج عنه طموحها للعب دور أكبر (وليس بالطبع لظهور أشخاص مثل نابليون أو هتلر أو غيرهم)  بالرغم من هذه الإخفاقات فإن قبضة هذه الدول كانت تتزايد على الدول الأخرى ومنظومة كبح التأزم الداخلي تزداد تعقيداً وقوة. كما استمرت الثورات التقنية والعلمية بعد الحرب الكونية الثانية. فمن ثورة الفضاء إلى ثورة الحاسوب إلى ثورة الاتصالات الثانية إلى ثورة النانوتكنولوجيا و علم الجينات.

 

وبعد تحطيم مفهوم الاقتصاد الموجه والعقلاني في الصين والاتحاد السوفيتي السابق عادت الأمم المتحدة لتلعب دور عصبة الأمم و مجلس أوروبا في توزيع الحصص بين أقطاب المنظومة الغربية (بعد تعشيق الصين وروسيا) لنشهد استقراراً عالمياً (بالمفهوم الغربي) مدته عشرون عاماً(1990-2010). لقد استفقنا في المنتصف الثاني من القرن التاسع عشر ( بتأثير من منجزات محمد علي باشا الكبير أولاً والاغتراب و البعثات التبشيرية ثانياً) على عالم غريب أقل ما يقال عنه أننا لا نعلم كيف نتعايش معه. عالم ليس فيه قوى وقارات جديدة ليس لدينا أدنى المعرفة بها فقط. بل عالم تنتشر فيه أدوات وأساليب إنتاج جديدة نجهلها ونجهل كيف تم الوصول إليها، عالم من المعطيات الفكرية والمعرفة والبنى المؤسساتية والمهن ومسائل اجتماعية وفكرية لا نستطيع إدراك سبب وجودها. والأدهى من كل ذلك أن الكثير مما كان لدينا من معارف قد مسخناه بأيدينا خلال فترة السبات و اعتقدنا أن مقابلاتها الحديثة لا تختلف كثيراً عن هذه الصورة الممسوخة. لقد أدرك بعض الرواد الأوائل (مثل الطهطاوي) عمق الهوة التي تفصلنا عن العصر الذي نعيش فيه كما أدركوا أهمية إعادة بناء الذات والفهم العميق لمشاكلنا و لحضارة العصر الذي نعيشه. لكن الكثير منهم كان بعيداً جداً عن هذا الفهم، إما بسبب الحماسة الطفولية أو بسبب كسلهم.

 

وتحت شعارات مضحكة، مثل عدم إعادة اختراع الدولاب، تحولوا لمسوقين لبضائع وأفكار وعادات غربية تحت شعار الحداثة والعصرنة فكانوا ليسوا أدوات للمؤامرة فحسب، بل صانعيها بجهلهم. وبعد الحرب الكونية الأولى ومن ثم الثانية، وجدت الكثير من شعوب المنطقة أمام استحقاق لم تعرفه سابقاً، ألا وهو أن تكون مسؤولة عن إدارة شؤونها، وهنا ازدهر سوق الأفكار غير الخلاقة. فالبعض يريد تطبيق نظرية شرقية والآخر غربية، والبعض يرى أن خروج المستعمر من الباب يؤدي إلى حل كافة المشاكل، بل أن البعض ظن أنه أصبح نداً لهذه الدول التي بنت نفسها خلال تسعة قرون. فهو لديه سفارة في هذه الدول كسفارات دول الغرب لديه، وهو عضو في الأمم المتحدة ويؤخذ برأيه (في حال توافق رأيه ! مع رأي هذه الدول بالطبع)، إلى آخره من المغالطات. والبعض ظن أن العلم والتكنولوجيا هما منتجات هذا العلم والتكنولوجيا، فأخذ يكوم هذه المنتجات أو يتحسر أنه لا يستطيع شراؤها وبالتالي لن يحصل على العلم.

 

والبعض أراد العودة إلى التاريخ، ولكن تاريخ لم يقرأه ولم يدرسه (لكسله)، بل صنَّعه، وفي أحياناً عدة صُنِّع له. فهذا اخترع قومية وذاك يريد العودة لحكم ديني لم يوجد إلاً في مخيلته، وآخر اعتبر نفسه جزءاً من الغرب. ولابد أن الإشارة إليه، أن الجميع ظن أن الغرب قد غادر فعلاً وأن له حرية الخيار مغتراً بالشعارات الجديدة للغرب من ديمقراطية وحرية وغيرها. أما فعلياً، فإن الغرب مازال يستخدم أسلوبه القديم، ألا وهو الإغراق التجاري، الذي ابتدعته البندقية. فالاستهلاك المتزايد هو الدم الذي يجري في المجتمعات الغربية وبدونه يجف رأس المال.

 

 ولجعل المنطقة والعالم الثالث وحتى الدول الغربية الأضعف سوقاً دائماً لبضائع الغرب، لابد أولاً من استمرار التقدم العلمي والتقني، ولكن أيضاً يجب تطوير باقي الدول للمستوى الذي يجعلها بحاجة لهذه المنتجات دون أن يكون بإمكانها تصنيعها إلاً جزئياً. والأدوات لذلك كثيرة، من دعاية ودراسات ومعايير توجه سياسات دول المنطقة، إلى مثقفين وحملة شهادات عليا بُرمجوا على تسويق أفكار وسلع الغرب. ,أخيراً إلى حروب وقلاقل متقطعة تجعل عملية الاستثمار وتكوين كوادر حقيقية تبني مؤسسات قوية، عملية شبه مستحيلة. لم ينته بعد

2013-03-12
أكثر المساهمات قراءة
(خلال آخر ثلاثة أيام)