منذُ سنواتٍ عديدةٍ، و قبلَ وجودِ
الفضائياتِ، كانَ احدُ مسلسلاتِ الرسومِ المتحركةِ التي انتشرت في أنحاءِ العالمِ و
عرضت على شاشتنا السوريةِ مسلسلُ “زينغو و رينغو”، و هوَ مأخوذُ عن انتاجٍ شيكيّ
اسمهُ “بات و مات”. لم يكن من داعٍ لترجمته فهو عبارةٌ عن لوحاتٍ من ست إلى ثماني
دقائق من الدمى المتحركةِ الصامتة.
يقوم ُالمسلسلُ على فكرةِ البحثِ عن حلّ لمشاكلَ تفتعلها شخصياتُ المسلسلِ نفسها و
تتزايدُ المشكلةُ المقترحةُ وفقَ سوءِ التعاملِ معَ الوضعِ من قِبلهما.
أذكرُ الحلقةَ حيثُ يستيقظُ زينغو في كومةِ كتبِ و نلاحظُ بأنّ كلّ منزلهِ مليءُ بالكتب. يدخلُ المطبخَ لتحضيرِ الفطورِ و نجدُ الكتبَ في كلّ مكانٍ، حيثُ يبحثُ عن المقلاةِ تحتَ عدد ٍمن الكتب لا يمكنُ أن يسعَ منطقياً في المجلى الصغير، أو في الدروجِ الصغيرةِ أو حتى في الثّلاجةِ حيثُ يحضرُ البيضةَ من خلفِ كتابٍ ثمّ يعيدُ الكتابَ إلى الثّلاجة. كانت هذهِ احدى ميزاتِ زينغو و رينغو… الأشياءُ التي تنبعُ منَ الأماكنِ المغلقةِ، و كم منَ الغريبِ كيفَ تسعُ هذهِ الخزائنُ الصغيرةُ كلّ ما فيها، و كم منَ الغريبِ كيفَ يتغيّرُ مُحتواها في كلّ مرّةٍ ليناسبَ المشكلةَ المُفتعلة! و هكذا لا ندري من أينَ تظهرُ الأشياءُ لتشكّلَ بُنية ً لكلّ تركيبِ حادثة.
في العودةِ إلى الحلقةِ و بعدَ أن يضعَ زينغو البيضةَ دونَ كسرها في المقلاةِ يذهبُ
لفتحِ البابِ حيثُ يتلقّى كتاباً جديداً. في حين يتصفحهُ سريعاً على البابِ تقعُ
تلةُ الكتبِ التي أخرجها من المجلى و وضعها على عنقِ الحنفيةِ مباشرةً على المقلاةِ
و تطيرُ البيضةُ إلى وجههِ الذي يتحوّلُ إلى بقعةٍ شبهِ برتقاليةِ اللونِ، لزجةَ
المظهرِ يمسحها بالورقِ الذي كانَ قد غُلّفَ الكتابُ به، و ببساطةٍ يرمي بالورقة
بعيداً، و كجميعِ الأوراقِ و الأشياءِ التي يرميها و لا يعودُ السيناريو بحاجةٍ
لها، تختفي الورقةُ و لا تعودُ للظهور لاحقاً. أظنّ بأن هذا كانَ أيضاً من أحدِ
العناصرِ التي أحبناها في كلّ الرسومِ المتحركةِ فهي تسمحُ لنا بالخفّةِ في
التعاملِ مع المساحاتِ و بتجاوزِ الممكنِ و المستطاعِ من خلالِ هامش اللعبِ الذي
يسمحُ لها بهِ عَقدُ المُتخيّل من ناحيةٍ، و تسمحُ لها بهِ المادةُ الكرتونية التي
لا تتبعُ لقوانينِ مساحاتنا البشريّة و التي تملكُ شرعيّةَ اعادةِ صنعِ هذهِ
المساحات من خلال عدمِ خضوعها لتلكَ القوانين.
في مساحاتهِ غيرِ التابعةِ لقوانيننا، يغوصُ زينغو في صنعِ مكتبةٍ من أثاثِ منزلهِ
و يفشلُ لأنّه لم يُثبّت أيّاَ من الرفوفِ و الأعمدةِ المصنوعةِ من صمدياتِ و
أباريقَ و أشياءَ غيرِ متوقعة. و هنا يأتي جاره رينغو لمساعدتهٍ كالعادةِ و يشتري
ببضعةِ قطعٍ نقديةِ مساميرَ لتثبيتِ القطعِ، و يتتالى الذهابُ و الإيابُ لشراءِ
المعداتِ إلى أن يبدأَ الاثنان ببيع الكتبِ لاحضارِ الأدواتِ اللازمةِ لصنعِ
المكتبة. و عندما ينتهيانِ، يجدان نفسيهما أمام أثاثٍ خشبيّ مصنوعٍ من قطعِ الخزائن
و الكراسي الغيرِ متناسقِ الأبعادِ و ينظرانِ من حولهما ليجدا كمّاَ هائلاً من
أدوات النجارةِ و قد اختفت جميعُ الكتب. يرتبانِ بسرعة كلّ الأدواتِ في المكتبةِ
المتحولةِ إلى مكتبةِ أدواتٍ و يجلسانِ على الكرسيّ الوحيدِ الباقي يتصفحانِ
الكتابَ الوحيدَ الباقي الذي اتبعا خطاهُ لصنعِ المكتبة.
في الحقيقةِ، كلّ فشلٍ ناجحٍ لهذا الثنائيّ هو ما يصنع القصةَ و هوَ الذي يعيدها،
بكلّ ما فيها من لا منطقيّةٍ مفتعلةٍ، إلى نطاقِ الواقعِ، هذا الواقعُ حيثُ كلّ
المشاريعِ و المخططاتِ لتصحيحِ أخطائنا تودي بنا فيه إلى نتيجةٍ حتميّةٍ بخلقِ شيءٍ
مغايرٍ لما كانَ في بالنا، وهذا ما يمنح لكلّ شيءٍ جماليتهُ في الحياة… تعويذةٌ من
الكمالِ الناقصِ و اللامتوقعِ المبدع… لكن ماذا عن تفصيلِ أنمنطقَ تعاملنا مع
تصحيحِ الخطأِ يشابهُ منطقَ تصرفنا الذي أوصلنا بالدرجةِ الأولى إلى هذا الخطأِ فهو
منطقٌ قائمٌ على مراكماتٍ للتغاضي عن نتائجِ كلّ فعلٍ صغيرٍ أو أداةٍ استعنّا بهما
لبناءِ مكتبتنا.
ليستِ المشكلةُ في مكتبةِ الأدواتِ التي انتهى زينغو و رينغو ببنائها شكلها أو
كونها انتهت كمكتبةََ أدواتِ نجارةٍ بدلَ من الكتبِ، لكنّ المشكلةَ هي أنهما اضطرّا
لبيعِ الكتبِ التي كانت بدايةً سببَ كل الحكايةِ و هدفها و رضيا، كما في كل مرةٍ،
بما نتجَ عن سوء تقديرهما و سوءِ توجههما. و في المجملِ، طالما الأمرُ متعلّقٌ
برسومٍ متحركةٍ، فلا ضيرَ من مكتبةِ أدواتٍ و لا ضيرَ من دروجٍ ينبعُ منها
اللامتوقع، ولا ضيرَ من اختفاءِ الأوراق و القطعِ في كواليس المساحةِ الكرتونية. بل
على العكس، كلّ هذا هو ما يصنعُ جماليةَ اللوحاتِ الكرتونية و اسقاطاتها على
الواقع. لكن تذكُّري لهذه الحلقة دفعني للتساؤلِ عن تشابهِ منطقِ هذا المسلسلِ و
منطقِ السياساتِ المتبعةِ و المساراتِ المتخذةِ تجاهَ الانتفاضةِ السوريةِ التي
تشبهُ كتبَ زينغو. و اليومَ باتت مساحتنا السوريّةُ مليئةً بالأدواتِ و خلت من
الكتب.
أتساءلُ أحياناً كثيرةً إذا ما كان السياسيّون يريدوننا أن نصدقَ بأننا في مساحةٍ
كرتونيةٍ و ينتهي بنا الأمرُ لوضعِ ورقِ جدرانٍ على حيواتنا المهشمةِ… و مسحِ
الدماءِ بورقةٍ تختفي مباشرةً بعدَ الاستعمال؟ كأنّ البلادَ سجادةٌ إنّ بقعناها
بالدهانِ الأزرقِ نستطيع قصَّ مكانِ البقعةِ ثمّ اخفاءِ الثّقبِ فيها بعجلةِ سيارةٍ
مدهونةٍ من حديقةِ زينغو و رينغو الخياليّة.
أتساءلُ إنّ كانوا يعونَ أن بلاداً مفكّكةً لا تشبه بشيءٍ قطع سيارةٍ مبعثرةٍ تخبّأ في الكراج بعد تحطيمها عند محاولةِ إدخالها إليه. أو إنّ كانوا يعرفون بأنّ الشعبَ ليسَ حجارةَ شطرنجٍ أخطؤوا في تلوينها … و أن مدننا ليست جدراناً كرتونيةً تعاودُ تركيبَ نفسها في اليوم ِ التالي. بأنّ مصيرنا لا يجب أن يكونَ قائماً على تراكماتِ أخطاءٍ في سيناريو مشكلةٍ مُفتعلة.