عندما بلغني خبر استشهاد عالمنا الكبير الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي رحمه الله وتقبله في الصالحين والشهداء، أحسستُ بألمٍ بين جنباتي وبين أضلعي، وكأني أتنفس من ثقب إبرة أو تحت مسج من الماء، إنتابني صُداعٌ جعلني أشدُّ على ناصيتي بكلّ ما أملك من قوة واضعًا يداي على رأسي ولساني سرًّا وجهرًا يهلّل ويسبّح ويكبّر ويدعو الدعاء تلو الدعاء للشيخ بالرحمة والمغفرة ولكل طلبة العلم ومن كانوا في بيت الله يتلون كلام الله ويتدارسونه بينهم فتغشيهم الرحمة، وتنزل عليهم السكينة ويذكرهم الله فيمن عنده.
تأملت بعد أن هدأت أعصابي من وقع صدمة تلقي الخبر للوهلة الأولى وقلت، ماذا يريدُ الواحد منّا أفضل من أن يموت في بيت الله، ثم قلت يا الله، لقد استشهد الشيخ البوطي وربه يذكره ومن معه في ملأ الملائكة المقربين بنص حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه:{ وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلاّ غشيهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده…}.
إنها نهاية كل حي قال تعالى:{ وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ
أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ…}
وقال تعالى:{ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ…}
جلست لمدة بعد ذلك أفكّر وأعود بالذاكرة إلى حيث نهاية الثمانينات من هذا القرن
وبالذّات في سنة 1989، حيث كان ذلك اليوم السعيد الذي تشرفت فيه بلقاء الدكتور
البوطي في مسجدنا الذي تربيت فيه وقضيت فيه صغري وشبابي وهو مسجد البشير الإبراهيمي
ببلدية براقي، عادت بي الذاكرة قرابة الأربعة والعشرين سنة خلت ولاتزال صورته عالقة
في خلدي وفي وجداني، ولازلت وكأني أراه ماثلا أمامي الآن بتلك البدلة الأنيقة
السوداء وذلك القميص الأبيض وقد علا شعر لحيته بعض الشيب وقد طبع الأدب الجمّ
والتواضع الرفيع محياه مع رهبة ووقار كانا يصحبان كلّ نفس يلفظه وكلّ كلمة يتفوّه
بها في ذلك المجلس وكم كانت رائعة تلك السّاعة التي قضيتها بجانبه وأنا أسمع في سحر
البيان المتدفق من حنايا صورته بلغة عربية لا عوج فيها ولا لحن جعلت كل من حضروا
تلك المحاضرة يدركوا أنهم أمام قامة من قامات العلم والخطابة وحسن الأداء والبيان
والتفسير في هذا القرن.
إنّ المصيبة بفقد العالم لا تدانيها مصيبة أخرى مهما عظمت، فموت العالم مصيبة لا
تُجبر وثلمَة لا تُسد، وكما قال الشاعر:
لعمرك مالرزية فقد مال ………… ولا فرس يموت ولا بعيرُ
ولن الرزية فقد حُـــــــرٍّ …………. يموت بموته خَلقٌ كثيرُ
إننا نعزي أنفسنا ونعزي أمتنا في فقدان هذا العالم الجليل ونقول من كان مقتديا
فليقتدي بميت فإنه مأمون الفتنة، وشيخنا جعل الله نهايته آية من آياته وكرامة من
كراماته لأوليائه الصالحين فختم له سبحانه بالشهادة كما كان عثمان يقرأ القرآن رضي
الله عنه فسالت الدماء الزكية على المصحف، وطُعن في المحراب كما طُعن من قبله أمير
المؤمنين عمر ومن بعده علي رضي الله عنهما وعلى الصالحين .
إننا نقول لك يا شيخنا ” إنّ العين لتدمع و إنّ القلب ليحزن وإننا لفراقك عنّا
لمحزونون ولا نقول إلاّ ما يرضي ربنّا وجزاك الله خيرًا على كلّ ما قدمته طيلة عمرك
المبارك خدمة للدّين ولأمتك، وجعل الله مثواك الجنة مع من أحببت من النبيين
والصديقين والشهداء والصالحين و حسُن أولئك رفيقا“. للأمانة الموضوع منقول