قد يصدّق الإنسان أحيانًا بعضًا من كذبه وهذيانه تمامًا مثل ما حدث مع شخصية أشعب الذي أزعجه يومًا صُراخ الأطفال وهم يلعبون أمام داره فأراد أنْ يصرفهم فدلّهم على بيت جاره حيث تظهر منه الأضواء وقال لهم: اذهبوا إلى حيث تلك الدار فإنّ بها عُرسًا وفيه تقدم الحلوى ويُقدم الطعام؛ وفُوجئ أشعب عندما رأى الأولاد جميعًا دخلوا الدار ولم يخرجوا منها، فقال في نفسه: لعلّ البيت فعلاً فيه طعام وشراب وحلوى فأسرع نحوه ووقع في مصيدة تصديق ذاته الكاذبة، فكذب على الناس ثم صدّق بعد ذلك كذبته ثم كذب هو على نفسه.
إنني صرت متأكدًا أكثر من أي وقت مضى بأنّ الذين صدّقوا فكرة الربيع العربي وثورة الشارع وانتفاضته إنّما هم أسرى أحلامٍ وردية جابت في خلدهم وخواطرهم لسنوات طِوال وعندما هيأ لها محترفوا الغزو الفكري ومصمّموا الثورات الشعبية وصُنّاع الدراما الحقيقية أسباب الظهور في ساحة الواقع وعلى منصة مسرح الحياة، وجد أصحابها أنفسهم في أُهبة الإستعداد النفسي والبدني لخوض مغامرة إنزال الأحلام على أرض الواقع باذلين في سبيل تحقيق ذلك كلّ شيء ولا يهمّ بعد ذلك أنْ تحدث الناس في شرق الأرض وفي غربها أنّ أهل القبلة يقتل بعضهم بعضًا ويسبي بعضهم نساء بعض ويلعن بعضهم بعضًا ولا يهم أن تنتشر بعد الربيع سموم رياح عاتية لا تسقط الأوراق من الشجر كما يفعل فصل الخريف إنّما تَقتلع الشجر والبساتين والبيارات من جذورها فتُفصل على موارد الماء الذي كان سببًا في حياتها ليحرقها الصيف بشدة حرّه وقلة ظله.
إنّ الواقع بكلّ مشاهده الظاهرة للعيان يحدّثنا بلغة الأرقام والحقائق عن الحالة
المتردّية التي آلت إليها كلّ بلاد العرب التي شهدت هذا النوع من الإنزلاق، ومهما
كابَر البعض ورفض البعض الإعتراف والتصريح بمثل هذا الذي أقول فإنّ الزمن وحده كفيل
بأن يُجبر الجميع على الجثي يومًا ما على الركب يحثون التراب على رؤوسهم لهول ما
يجدونه من خطورة المؤامرة التي كانوا وقودًا لها في بلادهم دون أن يدركوا ذلك
لحماستهم التي حجبت عنهم العقول فصار العقل متأخرًا والعاطفة متقدمة وحماسة بدون
تعقل هي إلى الطيش أقرب.
إنّ كلمة الحق تؤلم وإنّ الكتابة في غير ما تهوي الجماهير قد يُعرض صاحبه للنقمة
عليه ورميه بنعوت العمالة والجبن والإنبطاح غير أنّي تعلمت من خلال ما حدث في سنوات
المأساة الوطنية في الجزائر أنّ الأكثرية لم تكن على حق وأنّ من ملكوا القوة من
الطرفين لم يكونوا على الحق لأنّ الحرب لا رابح فيها أبدًا إذا ما كانت رحاها تدور
بين صفين مسلمين في بلد واحد مهما كانت الأعذار والمبررات التي قد يسوقها أصحابها،
والأيام حبلى بالجديد وكما يقول القرآن:{ لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ
تَعْلَمُونَ…}، وقوله:{ فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ….}.
إنّ الإستعمار الحديث سيحتل بلاد الخليج بأبناء الخليج، ولن تكون هناك ألوية حمراء
ولا أصحاب قبعات زرق، ولن تحمل الباخرات البحرية الطائرات أف16، والمقاتلات
النّفَاثة، إنما سيأخذون منّا هذه البلاد البترولية الغنية على طريقة تيمور
الشرقية، وعلى طريقة بلاد سنغفورة والتي كانت إلى عهدٍ قريب جدًا جدًّا جزءًا من
أرض إسلامية هي بلاد ماليزيا.
إنّ قصة خائن الدّار الذي دلّ أبرهة الحبشي على طريق الكعبة حين أراد أن يهدمها
بجنده وأفياله بعد أن ضاع منه الطريق إنّما هو عربي الأصل والذي حين مات صار قبره
مبولة للعابرين أمامه أو بمحاذاته، إنّ التاريخ يكرر نفسه وإنّ الإستعمار الحديث
ساهم في نزع عملائه الذين نصبهم على صبر هذه الأمة فحكموا بالحديد والنار بموافقته
ومباركته، وحين صاروا إلى الزوال أقرب ولم يعد لهم سندٌ ولا عِوز رموهم كما يرمي
المريض الأدوية المنتهية لصلاحيتها لعلمه بأنه إذا أخذها سترديه إلى القبر، إنهم لا
يعرفون صداقة أو وفاءًا لأحد إنّما صديقهم الوحيد هو المصلحة فأينما وجدت وجدت
الصداقة وما قضية وزير الدفاع الأمريكي السابق والرئيس صدّام حسين عنّا ببعيدة قال
تعالى:{ الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا
الْمُتَّقِينَ…}، وقال:{ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ…}.
وقال تعالى:{ كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا
وَلَا ذِمَّةً…}.
إنني أتوقع الأسوأ ولا أنتظر الخير ممّا يحدث لعلمي الأكيد بأننا ساهمنا في إشاعة
الأحقاد بين أبناء أمتنا بما أحدثناه من آراء وفتاوى وخطابات فتنة الحليم فجعلته
حائرًا، وصدق علي_رضي الله عنه_ حين قال:” حدثوا الناس بما يعقلون ودعوا ما يُنكرون
أتريدون أن يكذب الله ورسوله…”.
وقول بن مسعود:” ما أنت بمحدث قومًا حديثًا لم تبلغه عقولهم إلاّ وكان لبعضهم
فتنة”.
إنّ لسان العالم الغربي عمومًا وكلّ من هم خارج دائرة أمة الإسلام يتحدثون بلسان
واحد وهم يقولون: “إنّ محمدًا يقتل أصحابه…”