ارتقت إلى الأريكة،ضمت إحدى رجليها
إلى الأخرى وجلست متربعة على الطريقة التركية.
طيات الستائر القرمزية من ناحية الشمال استطاعت أن تقيها من ذلك النهار الكئيب من
نهارات تشرين الثاني من غير أن تفصلها عنه،شيء ما ربما كآبة النهار جعلها تقرر أن
تبقى حبيسة المنزل،هي المرة الأولى منذ أن تسلمت إدارة أعمال المرحوم والدها التي
تتغيب فيها عن المكتب.
حركت كوب الشاي بين يديها الصغيرتين، وقعت عيناها على (اللابتوب) المتروك على الطاولة أمامها مباشرة فعادت إلى ذاكرتها تلك الفسح (المشاوير) الخيالية التي كان يرسمها في خيالها، رحلة كل ليلة قبل أن تنام،يأخذها معه إلى مكان مختلف،يدهشها بمفاجئات جديدة وغير متوقعة،كل ذلك وهما يتحدثان عبر (التشات) كانت كل ليلة لا تأذن له بالنوم قبل أن يأخذها بخيالها في رحلة جديدة.
في كل مرة تتذكر هذه (المشاوير) تقع ضحية لصراع من التساؤلات:
- هل كان مجرد بائع للكلمات؟
- هل هو حالم رومانسي شديد الحساسية؟ أو ممثل بارع يتقن تمثيل ادوار البطولة
المطلقة؟
ينقذها صوت أمها من هذا الصراع الذي لم تستطع حسمه يوما
- ليلى......ماما تعالي احتاج إليك في المطبخ
- حاضر ماما .....أنا قادمة
جلس على كرسيه ذو الذراعين خلف مكتبه العريض،ألواح الزجاج الصافية خلف ظهره لم
تستطع أن تقيه أو حتى تفصله عن هذا النهار التشريني الكئيب، الإرهاق والتعب ترك
بصماته شحوبا واضحا على وجهه الأبيض،فالذكريات الجميلة تحولت إلى أرواح شريرة
تحاصره كل ليلة وتسلبه النوم.
رتب الأوراق المبعثرة على مكتبه وامسك قلمه وبدا بالكتابة،قصته الجديدة بطلها رجل
قوي احتال على مرضه المباغت،احتال عليه قبل أن يتركه ضحية لعجز تام،عقد الرجل القوي
صفقة سريعة مع الموت،الجميع كانوا أمام جثمانه يبكون ويصرخون وهو كان يرسم ابتسامته
السحرية على شفتيه،فقد نجح في إتمام الصفقة ......هي أكدت انه كان يبتسم
- يا روحي .......مبتسم........يا حبيب قلبي....... راسم أحلا ابتسامة على وجهه....
قالت كلماتها وقد تغير صوتها واحمرت عيناها من شدة البكاء......
نظر إلى صورتها على حافة مكتبه، كان ينظر إلى الصورة كمن أضاع ملكا لم يحسن سياسته
أحس بحاجة شديدة لسماع صوتها ولو من بعيد، تناول سماعة الهاتف وضرب رقمها الخلوي رن
هاتفها الجوال طويلا دون أن ترد ...........
رغم كآبة هذا اليوم إلا انه لا يستطيع أن يلغي المقهى من برنامجه،هذا المقهى الذي
يقع عند زاوية إستراتيجية تسمح له بالمرابطة وانتظارها وهي تمر بسيارتها رباعية
الدفع في طريقها لزيارة صديقتها،مرة أو مرتين في الأسبوع يستطيع أن يرصدها وهذه
تكفيه ليكون متأكدا أنها على ما يرام فقد فرض حظر تام عليه من ناحيتها.
ربما كآبة هذا اليوم دفعتها إلى التفكير بالتخلص وبشكل تام من أي ذكرى كئيبة،كانت
على قناعة تامة انه جلاد وأنها ضحية كما كانت متأكدة من انه هو صاحب الرقم المزعج
الذي يكتفي بالاستماع إلى صوتها دون أن يرد عليها،قررت اليوم أن تحوله من فارس يحرس
عيون أميرته إلى مجرد حارس حقير لقبور الذكريات التي ستدفنها في عقر داره،قررت ليلى
أخيرا أن تقصد ذات المقهى
لم يستغرب وجودها في المقهى عندما دخل من الباب لكنه شعر بمرارة لأنه لم يفتح لها
الباب كما عودها في الأيام الماضية،جلس على طاولته المعتادة عند الواجهة المطلة على
الشارع، طاولتها تبعد عدة خطوات إلى اليسار منه،كان على يقين تام أنها ستأتي إلى
المقهى لكنه لم يكن يعرف أي يوم أو أي ساعة، كان يعلم أن الشوق إليه لم يأتي بها
ولا حنينها إلى الأيام التي قضتها معه،كان على يقين تام أنها أتت لتدفن ذكرياتها
معه.
لم تستغرب أن يكون مركزا نظراته عليها عندما همست لها صديقتها في إذنها بذلك فهي
تعرف انه لا يستطيع أن يحرك بصره عنها حتى عندما تكون بقربه،كانت على يقين انه يعيش
بعد أن تركته كمن طرد من الجنة،لم تحاول أبدا أن تختلس النظر إليه رغم تعليقات
صديقتها عن نظراته المركزة.
استمر يحاصرها بنظراته فقررت استجماع قوتها،نظرت إلى عينيه مباشرة ودونما
إنذار،أخيرا التقت عيناهما،كانت هذه اللحظة كما اللحظة التي يحي الله العظام وهي
رميم،ماتت كل الأحقاد في قلبه ونسيت أنها ضحية،نفض الحب المدفون التراب عنه بعد أن
عاد إلى الحياة.
بقيت عينهما مشدودتين إلى بعضهما.......
-هل يمكن أن تكون على هذه المسافة القريبة مني ولا استطيع أن اكلمها؟أن أقول لها
اشتقت إليك!
-هو السبب.... أضاع الوقت لم يفعل شيئا هدر كل الفرص، كان متهما ولم يثبت العكس هو
مدان حتى يثبت العكس، تعالا عن الرد وتصرف بغرور، كنت أظن انه سيقلب الدنيا
لأجلي...........
-لم اعتقد أبدا أن أكون هناك محشورا في خانة الاتهام كنت مطمئنا أنها تعرفني وهي من
سيدافع عني ولن تتخلى عني في محنة وضعني فيها اقرب الناس إليها.
-خيانته لي أسلوب تعامله معي تصرفاته، لم يترك لي مجالا لأسانده.
- أخطأت .....نعم أخطأت ..........كنت كالولد الصغير الذي يخطا فيتوقع من أمه
العقاب لكنه يكون دائما على يقين أنها ستسامحه وتضمه إلى صدرها.
-أحببته بقوة........... أعطيته كل شيء قلبي وعقلي، ضحى بي ليتم صفقته، جعل مني
بطلة لقصة نهايتها غير مفهومة.
-هي بطلة كل قصصي وهي القصة الوحيدة التي لم اكتب نهايتها،لا افهم كل هذا التغير تجاهي الجميع تغيروا فجأة،هل كنت أضع قناعا وسقط فكشف عن سافل حقير،أم أن الرجل القوي هو الوحيد الذي كان يرى صدق حبي لها في عيني،أم ثروته التي خلفها هي السبب، فلتذهب إلى الجحيم أموال الدنيا كلها إذا كانت ليلى هي الخسارة،كم مرة أخبرتها أن ميراثي وما املك تحت قدميها؟
أكيد لم يخبروها كيف ذرفت الدموع يوم اخبروني أنها قررت أن تنهي
ارتباطنا............لو ترجع بذاكرتها.....لو تترك لي فرصة أدافع فيها عن
نفسي.......الزمن الزمن وحده سيكشف الحقيقة.
صوت ارتطام كوب زجاجي أوقعه النادل وسط المقهى أخرجهما من هذه الدوامة الفكرية
فحركا عيناهما عن بعضهما وعادت هي إلى مسامرة صديقتها وهو إلى تدخين سيجاره.
أطفأ سيجاره قبل أن ينهيه وغادر المقهى بعد طلب الحساب على عجل،أدار محرك سيارته
المركونة أمام باب المقهى مباشرة وانطلق لم تنتظر طويلا حتى غادرت هي أيضا
بسيارتها.
كان يجلس على طاولته المعتادة عند الواجهة المطلة على الشارع،طلب من النادل أن يرخي
له الستائر المعدنية علها تقيه وتفصله عن هذا النهار التشريني الكئيب،شعره كان شديد
البياض وترك الزمن بصماته على وجهه،تجاعيد واضحة،عيناه كانت تضحكان لكن فيهما
الكثير من الحزن،أقبلت إليه فتاة صغيرة بعمر الزهور تقطر دلعا شعرها الأشقر كما
الغابة عيناها البنيتان واسعتان وانفها الصغير المدبدب كحبة كرز مدورة كانت ترسم
ابتسامة سحرية تطابق ابتسامة الرجل القوي.
-بابا.....الماما ناطرتك بالسيارة
أطفا سيجاره قبل أن يكمله وحمل الصغيرة بين ذراعيه واخذ يمشي بهدوء باتجاه باب
المقهى.