تقرير قضية للنقاش (2)
السياسات الاقتصادية المجتمعية (1)
هذا التقرير هو خلاصة نقاشات جرت بين مجموعة من الاقتصاديين والمهتمين في الشأن الاقتصادي السوري على صفحة (مركز تفكير الاقتصاد المجتمعي) خلال الفترة بين (21 - 27 /٧/٢٠١٣) حول القضية التي طرحت وهي:
يعرف مركز تفكير الاقتصاد المجتمعي، السياسات الاقتصادية المجتمعية بأنها: «السياسات التي تعتمدها الحكومات لتحقيق تنمية اقتصادية شاملة، وخلق فرص العمل اللائق، وتحقيق العدالة والإنصاف في توزيع الدخل والثروة، وخلق التكافؤ في الفرص، وتلجأ الحكومات عادة إلى استخدام حزم متنوعة من السياسات مثل سياسات الدعم، وسياسات التشغيل والأجور، والضمان الاجتماعي المتعدد الأنواع، والرقابة على الأسواق، وضبط الأسعار، وحماية المستهلك».
سوف تخصص الصفحة نقاشها الحالي حول الجزء الأول من سياسات الاقتصاد المجتمعي المتعلق بالدعم (مستهلكين، صناعيين، تجاريين...)، وبالرقابة على الأسواق، وضبط الأسعار، وحماية المستهلك من خلال الأسئلة التالية: 1- هل ما اتخذته الحكومة من سياسات دعم، ورقابة أسواق، وضبط أسعار وحماية مستهلك كان كافياً ومناسباً خلال الأزمة؟ 2- هل يوجد مقترحات وبدائل لتطوير السياسات السابقة لاحتواء النتائج الاقتصادية والاجتماعية للأزمة في حال استمرارها أكثر؟
|
إجراءات الحكومة وسياسات الدعم وحماية المستهلك:
يعد الدعم سياسة لإعادة توزيع الدخل، وبشكل أدق هو آلية تعويضية مهمة لمساعدة الفقراء والطبقة الوسطى على تحمل ارتفاع أسعار السلع والخدمات (التي تتزايد تباعاً) في ظل انخفاض معدلات الأجور (التي بقيت شبه ثابتة لفترات طويلة)، وهو ما يدعى بدعم المستهلك النهائي، وأيضاً يقدم الدعم لبعض المنتجين في بعض القطاعات وفي بعض الأوقات، مثل تقديم (الطاقة) من مختلف المصادر بأسعار تقل عن تكلفتها، وذلك بغية تحفيز الإنتاج الوطني ودعم القدرة التنافسية للسلع المحلية. يضاف إلى ذلك أن الإعفاء الضريبي والجمركي أو التسهيلات الاستثمارية بمختلف أشكالها هي دعم للمستثمر (أي دعم لرأس المال).
ما قامت به الحكومة (تحت ذريعة توجيه الدعم لمستحقيه) هو إلغاء دعم المستهلك النهائي ودعم المنتج المحلي اللذين يشكلان عماد الاقتصاد الوطني واللذين يحافظان على القوة الشرائية للطبقة الوسطى والفقيرة، وحافظت على كافة التسهيلات الممنوحة لرأس المال (الأجنبي والمحلي)، وترافق ذلك مع انسحاب واضح لمؤسسات التجارة الداخلية والتموين وحماية المستهلك من مراقبة الأسعار وضبط الأسواق واكتفت بإصدار أسعار تأشيرية.... هذه الإجراءات التي اتخذتها الحكومة بعيدة تماماً عن ظروف الحرب التي تمر بها سورية، ومن المعلوم أن رقابة الأسواق وضبط الأسعار وتحفيز الإنتاج المحلي وزيادة الدعم (سواء النقدي أو العيني) هي الإجراءات والآليات التي تلجأ إليها الدول الرأسمالية في أوقات الأزمات والحروب حفاظاً على قوت الشعب والتخفيف من وطأة الحروب والأزمات.
وبما أن الدعم هو أحد أدوات السياسة المالية المتمثلة في سياسة الإنفاق والتحويلات الحكومية، بذلك يمكن القول أن إلغاء الدعم دون أن يرافقه تعويض موازٍ له هو بمثابة ضريبة إضافية على المواطن، وبذلك يعد إلغاء الدعم تجاوز واضح للدستور الذي ينص في المادة (18 منه الفقرة /1/) «لا تفرض الضرائب والرسوم والتكاليف العامة إلا بقانون»، وهو ما لم يحدث.
وبذلك أخفقت الدولة في حماية المستهلك قبل الأزمة وخلالها، إذ أنها قصرت حماية المستهلك فقط على الرقابة على أسعار السوق النهائية وجودة وصلاحية المنتجات، في حين كنا نحتاج مراقبة تكاليف الإنتاج والاستيراد لمعرفة هامش الربح والحد منه إن كان مرتفعا كثيراً، وتحديداً في حالات الاحتكار الأحادي أو الثنائي أو في حالات احتكار القلة، كي لا يتحقق ربح كبير جداً على حساب المستهلك وكي يتحقق نوع من العدالة بين رأس المال والعمل، وذلك من خلال تدقيق البيانات المالية والإنتاجية والجمركية والتحقق الدقيق منها، وبالتالي فإن حماية المستهلك هي حلقة حمائية متكاملة.
وفي علم الإدارة العامة النتائج السلبية لاتخاذ قرار خاطئ هي نفس النتائج السلبية لعدم اتخاذ القرار الصحيح في الوقت المناسب، وهذه هي المشكلة الأساسية في معظم (إن لم نقل كافة) القرارات والسياسات الاقتصادية في سورية، وعندما بدأت الحكومة بتنفيذ سياسة رفع الدعم عن حوامل الطاقة منتصف عام 2008 استجابة لمضامين الخطة الخمسية العاشرة، فإنها نفذت تلك السياسات بمعزل عن أي سياسة اجتماعية موازية لها قادرة على امتصاص الصدمات المترتبة على رفع الدعم، واستمرت سلسلة رفع الدعم حتى الآن مما فاقم من حدة الاستقطاب الاجتماعي وزاد مستويات الفقر، يضاف إلى ذلك أن الحكومة لم تنجح بضبط الفساد ومنع التهريب ومراقبة السوق خلال فترات رفع الدعم الأمر الذي أجهض تلك السياسة فوراً، كما كان يبدو من الواضح أن هدف رفع الدعم هو هدف مالي بحت يصب في خانة تقليص عجز الموازنة العامة للدولة دون وجود اعتبارات حقيقية لتأثيره على الاقتصاد الكلي والواقع الاجتماعي، فالحكومة لها عقلية جبائية وليست عقلية اقتصادية.
النتيجة كانت أن الإجراءات التي اتخذتها الحكومة لم تكن كافية أو مناسبة بل على العكس كانت تكاليفها وآثارها السلبية (الاجتماعية) أكبر بكثير من مزاياها، إذ أن معظم الإجراءات والسياسات التي اتخذتها الحكومة لم تستطع من تخفيف الضغط عن كاهل المواطن، حيث؛ أولاً، ألغت دعم المستهلك النهائي، علماً ان الدعم المخصص لرأس المال الذي هرب من سورية ما زال سارياً، وثانياً، لم يكن هناك أي رقابة للأسواق، ورغم إعادة وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك إلا أنها لم تقم بأي إجراء من شأنه تخفيض الأسعار والرقابة عليها، بل العكس كانت مديرية حماية المستهلك تطالب دائماً من المواطنين تقليل الاستهلاك في الوقت الذي تتحجج فيه بعدم وجود كادر كاف، وثالثاً، عدم تحسين الرواتب بما يتواقف مع زيادة الأسعار، ما أدى إلى قيام المواطن بدفع مبالغ الدعم مرتين، مرة عند إزالة الدعم ومرة أخرى عند زيادة الرواتب.
مقترحات وبدائل لاحتواء النتائج الاقتصادية والاجتماعية:
1- العودة إلى مركزية الدولة في تجارة الجملة وتدخلها بالسوق، أي تدخل الدولة (جنباً إلى جنب) كتاجر جملة فهي تمتلك منافذ بيع وتوزيع وتسويق كبيرة وبالتالي فهي قادرة على منافسة القطاع الخاص مما يضطر الأخير إلى تخفيض أسعاره وتحقيق أرباح مقبولة وليست خيالية، ويتطلب ذلك وجود آليات جديدة في إيصال المواد لمنافذ البيع الخاصة.
2- إنشاء هيئة أو جهة عامة واحدة معنية بالاستيراد تنسق بين التاجر والمصرف المركزي، أي أن تقوم هذه الجهة بالاستيراد بناء على طلبات التجار والحكومة، وبما أن المصرف المركزي يمول المستوردات، بالتالي ستكون علاقته الوحيدة مع هذه الجهة العامة، وبذلك يمكن ضبط عمليات الاستيراد بالأسعار الحقيقية (دون وضع أسعار وهمية من التجار) وأيضاً يمكن الحفاظ على القطع الأجنبي ضمن أقنية الحكومة، وبذلك تصبح الدولة بديل عن تاجر الجملة الأساسي أو الوكيل.
3- على مديرية حماية المستهلك أن تعمل على خلق توازن سعري بين مصلحة المستهلك والمؤسسات أو الشركات أو تجار التجزئة، بما يحقق إنصاف الجميع في وضع سعر مقبول لكل الأطراف.
4- الاستمرار بتطبيق سياسة الدعم للمواد التموينية والضرورية للمواطنين، وإضافة مادتي الغاز والمازوت إلى البطاقة التموينية وأي مادة أخرى تمس الحياة المعاشية اليومية، إضافة إلى إعداد قسائم خاصة بوسائل النقل العامة بأسعار مدعومة لمادتي البنزين والمازوت، لتخفيف عبء مصاريف النقل على المواطنين.
5- اعتماد بطاقة تموينية الكترونية بدل البطاقة الحالية، وهذا أمر يتطلب جهوداً كبيرة و تأهيل كادر و معدات خاصة في منافذ البيع و لكن إنجازه سيكون في غاية الأهمية و الفائدة .
6- بناء كادر جديد للتجارة الداخلية ومراقبي التموين، قادر على ضبط الأسواق ومراقبة الأسعار وجودة السلع والخدمات ومدى توافرها، والحد قدر الإمكان من فك احتكار السلع، وذلك بتفعيل قانون المنافسة ومنع الاحتكار.
7- ضرورة التنسيق بين المصرف المركزي ووزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية ووزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك، وخاصة في مجال ضبط تكاليف الإنتاج والاستيراد ومراقبة التسعير.
8- اتباع سياسة ضريبية عادلة لأنه من غير المقبول أن يدفع الموظف (ذو الدخل المحدود) ضريبة أكبر من الضريبة التي يدفعها التاجر أو الشركات، لذا يمكن إلغاء ضريبة الرواتب والأجور شأنها شأن ضرائب الأرباح الحقيقية على دخل الشركات التي لا تدفع أي ضريبة في الظروف الراهنة بحجة عدم وجود أرباح، وبإلغاء هذه الضريبة يزداد الدخل بالنسبة لكافة العاملين في القطاعين العام والخاص دون أن تنعكس على الأسعار، وكذلك إلغاء ضريبة الدخل المقطوع ليتساوى مع القطاع غير الرسمي الذي يعمل بحجم كبير دون دفع ضرائب، والبحث عن مطارح ضريبية بديلة وعادلة.
9- تغيير آلية اتخاذ القرارات، وذلك من خلال إجراء حوار تشاركي مع الخبراء الاقتصاديين وممثلين عن نقابات العمال والفلاحين وغرف التجارة والصناعة، واتباع مبدأ استطلاعات الرأي والاستفادة من نتائج هذه الاستطلاعات في اتخاذ اجراءات دعم فاعلة ومستقرة، وبذلك تتخذ القرارات من أسفل إلى أعلى، بدلاً من أن تكون القرارات من أعلى إلى أسفل.
10- العمل على استرداد الثقة المفقودة بالحكومة وبآلياتها وأهدافها، من خلال اعتماد سياسة اقتصادية - اجتماعية واضحة في توجهها لاقتصاد السوق الاجتماعي، الذي تبنته كنهج تنموي رسمي تلتزم من خلاله الجانب الاجتماعي في توجهها، واتباع سياسة حكومية شفافة وعلنية وتشاركية، سواء في اتخاذ القرار أو في محاسبة الفاسدين والمقصرين.
11- قيام مجلس الشعب بمهامه المناطة في الدستور، وذلك بمساءلة ومحاسبة الحكومة عند تقصيرها وعدم قيامها بواجبها وعدم تحقيقها لأهدافها وبرامجها.
12- استعادة الحكومة قوتها في وضع السياسات وليس بتعاملها مع ردود الافعال، المشكلة أنه لا توجد سياسات ثابتة ومدروسة والمعالجة هي آنية وناجمة عن ردود فعل، لذا سرعان ما تظهر عيوب هذه المعالجة بظهور مشاكل اقتصادية جديدة.
13- تحفيز المشروعات الصغيرة والمتناهية في الصغر، وتقديم القروض الصغيرة لدعمها، والتوجه لتشجيع ورش العمل الصغيرة والمنزلية لتقديم كافة المنتجات وخاصة الغذائية وتوريدها لمسارات التوزيع المناسبة بحذر وبنطاق المحافظة الواحدة تجنباً لصعوبات الطرقات من ناحية، وتخفيضاً لتكلفة النقل الباهظة حالياً بين المناطق من ناحية أخرى، والقيام بحملات توعية للاقتصاد المنزلي، فقد يجنبنا الدخول بدوامة الفقر المدقع المتوقعة، ولقدرتها على خلق فرص عمل تتناسب مع الحاجات المحلية، وتحفيز عجلة الإنتاج.
14- إنشاء دائرة معنية بدراسة السوق والخدمات التي تقدم معلومات واضحة مبنية على دراسات علمية وليس فقط اجتهادات قد تصيب وقد تخطئ، وحتى تكون قراراتها فاعلة ومؤثرة، فهي بحاجة الى قرار وطني يخدم المصلحة العامة، لا أن يصدر قرار لصالح فئة محددة.
الخاتمة:
الهدف الأساسي من سياسات الاقتصاد المجتمعي في أي اقتصاد هو تقليص حدة الاستقطاب الاجتماعي لضمان استمرار التوازن بين الاقتصادي والاجتماعي في الدولة، وبالتالي فإن تلك السياسات هي سياسات اقتصادية لكنها ذات مضامين اجتماعية، لكن للأسف ما حدث في سورية أن طبيعة السياسات الاقتصادية كانت ذا نفع خاص، بسبب غياب مبدأ الشفافية والمساءلة، وما تمر به سورية حالياً ليست فقط نتاج الأزمة، بل كانت نتيجة طبيعية للسياسات التي اتبعت في العقد السابق وخاصة بعد عام 2005،حيث اتبعت أسلوب التنمية القائم على (نظرية التساقط) أي تركز الثروة وبالتالي ستتساقط الثروة تلقائياً على الطبقات الأقل دخلاً، ولكن لم يحصل هذا، بل على العكس تركزن الثروة أكثر وأكثر في يد القلة القليلة، فضلاً عن ذلك قامت الحكومة بمنح المزيد والتسهيلات لعمل الشركات الكبيرة وفتح الاستيراد على مصراعيه، وأهملت تعزيز عمل المؤسسات الصغيرة والمتناهية في الصغر التي هي أساس دعم وتنمية الدول النامية، لأنها تطور المنتج المحلي وتعتمد تشغيل يد عاملة كبيرة وغير خبيرة أو مؤهلة....
الخلاصة أن حماية المستهلك ودعم المواطن ليس مفهوم مؤطر ينحصر في ضبط الأسعار، بل هو مفهوم واسع يتجاوز الأسعار إلى جودة السلع والخدمات المقدمة فضلاً عن توافر هذه السلع في السوق والقدرة على تلبية الحاجات المحلية، وهذا يتطلب أن تكون سياسات إدارة الأزمة متكاملة فيما بينها ومدروسة بعناية كي لا تتضارب نتائجها، ويكون لها مفعول عكسي على حل الأزمة، والواضح من النقاش وجود توافق على أن هناك حالة من عدم التنسيق فيما بين تلك السياسات، وعدم قدرة بعض السياسات على مواكبة التغيرات السريعة، مما ساهم في تعميق الأزمة وعدم القدرة على الاستجابة معها بالشكل المطلوب.