حسب بعض المشاهدات في قوانين الطبيعة نجد في التجمعات الحيوانية غير العاقلة قائد القطيع يقدم نفسه أضحية للمفترس كي لا يتضرر باقي القطيع الضعيف لأنه يعلم أن في قطيعه من يستطيع أن يقوم مقامه, ولأن القيادة تستلزم تفضيل المصلحة العامة على المركز الذي هو مجرد مكانة لتسيير أمور باقي الأفراد, فشأن القيادة والتفرد والتميز هو شأن متداول, غير محصور بشكل شخصي بفرد لا يمكن تكراره في تجمعات تضج بالخصوبة والبدائل.

يثبت الحاكم العربي المستبد يوماً بعد آخر في خضم الأحداث الأخيرة في المنطقة العربية أنه الحائط غير الآمن الذي يمتلأ بالثغرات غير القابلة للإصلاح فينفذ عن طريقه الاحتلال للأوطان مهما امتد به زمان احتفاظه بمنصبه, ومهما ادعى أنه الحافظ لمنعة البلد والأكثر تحصيناً له, ذاك أنه خالف أبسط القواعد الهندسية الهيكلية بداهة عندما ترك جذر سوره متضعضعاً لم يخضع لمعايير العدالة والمساواة والانضواء تحت مظلة القانون والاهتمام بالقاعدة الشعبية ولم يرّسخ في مواطنيه حس المواطنة التي يقع عليها حمل تثبيت حب الوطن الذين ينتمون اليه جميعاً لا ذاك الذي يخضع لسيطرته وجبروته ولم يجعل من خدمة شعبه وتحقيق مطالبه وطموحاته لتكون سنده الحقيقي في مواجهة أي تدخلات خارجية, واعتمد على بطانته التي تصور له زيفاً وكذباً أنه الشخص المحبوب في طول البلاد وعرضها والذي تخرج المسيرات المليونية العفوية انشراحاً وسروراً لكل ما يمنحه من منح للعامة من منجزات لم يسبق لها أن حدثت في كل البلاد.

تقول إحدى النظريات أن الحاكم العربي هو مجرد خاتم بيد الأنظمة الغربية عبره تتم الصفقات وعن طريق عائلته تعقد المشاريع وتحظى الشركات بعقود الاستثمار التي تنقلب بقدرة قادر لتصبح احتكارات يحركها ويستفيد منها مقربون.

يقول أصحاب هذه النظرية إن الغرب يحصل على ما يريد من مصالح ومنافع ومعاهدات معظمها يحدث تحت الطاولة عن طريق الحاكم الطاغية الذي يعتبره شرطيه في المنطقة فلم لا يكون هذا التفاهم مباشراً بين الغرب وبين الشعوب بدون أي واسطات وبدون المزيد من الاستبداد؟

تراه يسوق نفسه دوماً على أنه حامي الحمى ومفجر الطاقات والعارف بالله وبشؤون العباد وهو بذاته العلية الحافظ للسلم الأهلي وهو الرازق للعباد وهو الضامن الكافل لمنع نشوء الحروب الأهلية والطائفية تراه مرة يندد بالخطاب الغربي عندما يجد من الغرب عدم تقدير يتلائم مع عظمته أو انحسار عن ألقه وعطاءاته فيحرض الجموع للنيل من هيبة هذه الدول المارقة الكافرة والتي تحضر للغزوات الصليبية المتواصلة وعندما يحقق مبتغاه يقوم باظهار نفسه كرئيس حضاري قادر على لجم جموع الغوغاء ليؤكد أنه الوحيد القادر على احتواء هذه الشراذم من المجتمعات وأن البديل عنه بالمنطق الغربي لتبادل القوى يعني وصول المتعصبين والتكفيريين الذين يمثلون العدو الأول للغرب.

يصاب القائد الأعظم بجنون العظمة يساعده على ذلك عدة عوامل منها أنه لم يتنازل يوماً وأن فكر بأنه مجرد مواطن بمنصب يحمل مسؤولية كبرى لا تعدو عن كونه موظف لتسهيل أمور باقي المواطنين وأن هناك الكثير جداً ممن هم على شاكلته بل وقادرون على أن يؤدوا ما يقوم به بشكل أكثر اقناعاً وأكثر ملائمة بسبب قربهم من معاناة الشعب إن تم تداول السلطة بشكل دوري سلس وآمن وأن لايكون الحديث عن تبادل السلطات شيئاً من المحرمات يقض مضجعه الشريف المثقل بالهموم والأحمال!!!! تقوم البطانة المنتفعة من حوله بصناعة هالة من القداسة حوله تجعله غير قابل للمحاسبة وغير قابل للمراجعة ويزيد الأمر سوءاً بشكل عام أن عائلته والمقربين من حاشيته يضربون بسيف ظالم وجائر باسمه ويزيدون في رصيده المزيد من الأحقاد عندما لا يطال هؤلاء أي عقاب.

يتصف الحاكم العربي الطاغية بقصيدة نزار الخالدة السياف:

أيها الناس:
أنا الأول والأعدل،
والأجمل من بين جميع الحاكمين
وأنا بدر الدجى، وبياض الياسمين
وأنا مخترع المشنقة الأولى، وخير المرسلين..
كلما فكرت أن أعتزل السلطة، ينهانى ضميرى
من ترى يحكم بعدى هؤلاء الطيبين؟
من سيشفى بعدى الأعرج، والأبرص، والأعمى..
ومن يحيى عظام الميتين؟
من ترى يخرج من معطفه ضوء القمر؟
من ترى يرسل للناس المطر؟
من ترى يجلدهم تسعين جلدة؟
من ترى يصلبهم فوق الشجر؟
من ترى يرغمهم أن يعيشوا كالبقر؟
ويموتوا كالبقر؟
كلما فكرت أن أتركهم
فاضت دموعى كغمامة..
وتوكلت لا على الله ...
وقررت أن أركب الشعب..
من الآن.. الى يوم القيامه..

........................................................................

يصل الطاغية العربي لحالة من الذهان عندما يخطر على باله أنه يحق له أن يتصرف كجزار فيعامل الضحايا بما تمليه عليه ذاكرته النازية التي غذتها حالة الإنفراد بالشؤون القيادية فهو المتصرف الوحيد في هذه الأرواح يمتلكها ويقوم بتوزيع عطاءات البراءة ليتابع أولئك الضحايا حياتهم تحت النعال أو أن يجازيهم بالاعدام وإذا ما أطل شريكه الخفي من الغرب برأسه كي يظهر بمظهر المخلص تجده فقد صوابه فكيف يتجرأ شريكه على أن يتجاوزه في شأن داخلي!!!

لقد كان مشهد سقوط طرابلس مشهدأً مأساوياً آلمني أشد الألم ويبرز حالة مصغرة عما سبق ويزيد عليها الألم الذي يتجاوز حد الاحتمال عندما يصبح حلف الناتو الذي يعتبر أكبر حلف للارتزاق والشبيحة في العالم هو المخلص لشعب أنهكه طغيان وجنون طاغيته الذي بات أضحوكة القاصي والداني. لعلّ هذه الحالة المهينة تستدعي بعض الدراسة والتساؤلات.

لقد قدم القذافي تنازلات كبيرة وهائلة للعالم الغربي عندما سمح له أن يستمر بالحفاظ على ((عرشه)) رغم كل الاتهامات التي كانت تتقاذفه من مكان لآخر فقدم تعويضات هائلة وكبيرة لضحايا لوكربي مع عدم اعترافه بتحمل مسؤولية الحادثة التي وصفت أنها إرهابية وأعطى امتيازات كبيرة وهائلة للشركات الأمريكية في مجال النفط والتنقيب عنه وقدم على طبق من ذهب مشروعه النووي كعربون ولاء وخضوع تأمين ولكن عندما تم المساس بمحاكمة ابنه الخليع في إحدى الدول الأوربية لخرقه إحدى القوانين الأخلاقية والإنسانية نجد خطابه التكفيري والإلغائي للغرب على أشده فنجد الطاغية بأقصى تقلباته مع الآخر حسب منفعته الشخصية أو ما يخدم مصلحته وحسب رؤيته الضيقة أما عندما يصل الموضوع لناحية علاقته بشعبه نجده في صورة زعيم عصابة من الضباع تود أن تنهش ما تريد من المخالفين أو المناهضين لتسلطه ولو اقتضى ذلك صناعة أنهار من الدماء بفواتير يدفعها المواطنون من جيوبهم ومن خيرات بلادهم التي يعانون فيها من التهميش والبطالة والفساد.

هل كان من الصعب على هذا الطاغية العربي الصفيق أن يجنح نحو رغبات شعبه وطموحاتهم وآمالهم في أن يشاهدوا دماء جديدة قابلة للمحاسبة لا تلبس رداء الآلهة غير القابلة للمحاسبة؟

أليس تصرف القذافي الأرعن والمجرم هو من أوصل بعض الذين قنتوا وملوا من الصبر على مواجهته بصدروهم العارية عندما سلط عليهم كتائبه الارتزاقية المختصة بحمايته وأهل بيته ومن يواليه فقط ليقبل بتدخل أجنبي لولا طغيانه وجنونه واستباحته الدماء والأعراض ؟

هل مؤسساتنا العربية الخارجية هي مجرد هياكل محنطة حتى في حقن دماء العرب من قبل حكامها الطغاة لتقبل بالارتهان لجيش من المرتزقة قام بالاستفادة من هذه الحالة من اللااتفاق بين الطاغية وبين ربيع الثورات العربية التي ترتجي الكرامة والحرية ولماذا شاهدنا فقط هذا في حالة البحرين حين تدخل درع الخليج لفض احتجاجات البحرين الداخلية؟

هل كان ليصل هذا الحال لدرجة الاستنجاد بالخارج المرفوض قطعاً, إن قدم هذا الطاغية أو غيره بطريقة مناسبة ومحترمة وسريعة ما يطلبه منه الشعب كونها مطالب شرعية وكون الشعب هو مصدر أي سلطات وأن أي ارتهان لغير مطالب الشعب هو ارتزاق من نوع جديد شأن ارتزاق الناتو من معاناة الشعب مع طغاته للحد الآخير من الانتفاع الرخيص؟ أم أن الطأطأة للعدو الخارجي هي أكثر قبولاً لهذا الطاغية السادي الذي يتلذذ بمعاناة الشعب ويعتبره مجرد لعبة رخيصة يستمتع بقتلها!!!

يقول النازي هتلر إن أكثر الذين كرههم وقرف منهم كانوا أولئك الذين خانوا بلادهم وكانوا سبباً لاحتلال بلادهم, وأنا بالمقابل أعتقد أن القذافي هو الخائن الأكبر الذي أوصل بلاده لهذا الحجم من التدخلات الخارجية ولتكون خيرات بلاده كعكة يقتسمها جيش حلف الناتو القوة الامبريالية الأولى في العالم حتى يتم التخلص منه ومن طغيانه واستفراده بشعب أعزل وصفه بالجرذان, قد تجاوز عدد الضحايا فيه حسب بعض الإحصاءات لعشرات الآلاف ليصبح هو شخصياَ أحد القوارض يربص في أحد المصارف الصحية بانتظار اعتقاله أو تصفيته.

لقد أثبت التاريخ أن الخاسر هو من يضع نفسه كطاغية أمام مد الشعب وتطلعاته ومتطلباته فهو خاسر لا محالة, وعليه أن يعيد النظر بأحواله, فكارثة أن يعاود الطغاة ذات الخطأ عدة مرات, كما أنه من الخطأ الشنيع والعار الاستقواء بالخارج لأن منطق استبدال الطاغية بالاحتلال أو الارتهان هو منطق مرفوض في ميزان التغيير المطلوب.