لم أفهم حتى الآن ما هي مهمة "المحللين السياسيين" الذين يظهرون على القنوات "المغرضة"!!! هل هي للإيحاء أن العقل السوري الذي علم العالم خال من أشخاص يتحدثون بمنطق وبعقلانية وبدون إسفاف؟ أم أن هناك انتقائية مؤامراتية من تلك القنوات ذاتها كي تظهر شعباً عريقاً كالشعب السوري يمثله هذا الساذج أو ذاك ليجاوب عن أسئلة بمنتهى الإغراق بالعموميات توحي أنه إما لا يجرؤ على الإجابة بشكل واضح أو أنه خائف مقيد أو حتى منحاز بشكل لا يطيقه من يحمل بعض الفكر أو المنطق .

الأنكى أن يطلب مني أحدهم أن لا أنتقد هذا الغباء لأن أمثال هؤلاء يقومون من بمقام من يقوم بحرب مقدسة بالنيابة عن الوطن والمواطنين!!!

لا أستطيع أن أفهم أن هناك من يدعي أنه محلل سياسي أو كاتب ذا عقلية محترمة عندما يُسأل عن الدخان المتصاعد لدى دخول الجيش لمناطق اعتبرت أنها حبلى بالعصابات المسلحة فيكون الجواب الأكثر من حذق أن هذه مجرد "فتيشات"!!! أو التحريض غير المسؤول وبشكل علني لدول الجوار كالخليج العربي بتحريك النزف الطائفي هناك وإحداث بلبلة في دول مجلس التعاون الخليجي في محاولة لتصدير الأزمة الداخلية للخارج!!!

آخر يُسأل عن نازحين وعلى شدة الألم الذي تسببه الكلمة فيجيب أن هؤلاء ذاهبون في زيارة لصلة الأرحام عبر الحدود!!! أحمق آخر يُسأل عن سبب قطع الاتصالات عن منطقة أقرها الجيش أنها منطقة عمليات فيجيب أن الحموية يغلقون جوالاتهم أثناء صلاة التراويح!!! بالرغم أن هناك من غير المصلين ومن غير المسلمين أصلاً!!!

أحدهم يظهر على شاشة التلفاز الوطنية- التي هي ملك لكل السوريين- ويعلن بكل ارتياح أن المتظاهرين قتلهم واجب شرعاً!!!

لا يخفى على أحد حادثة البشمركة العراقية التي تم إنكارها على كافة الأصعدة ولم يعتذر أحد عنها رسمياً أو حتى قام بالتحقيق فيها وكان تحليل هذه الحادثة لم يلق أكثر من الاستهزاء من المحللين السياسيين السوريين مما جعل أمر تكرارها أمراً غير ذي بال!!!

آخر يتحدث عن بارجة حربية تدخل مياهنا الدولية لتقوم بالتنسيق مع غرفة عمليات وتقوم بإحداث اختراقات على مستوى عال من التكنولوجيا المتطورة!!!

أما الحديث عن محاولة هرب أحد أمراء السلفية بطائرته الهليكوبتر فهي ملحمة تراجيدية لم أسمع لها مثيلاً في إعلام رديف من قبل!!!

آخر يظهر على شاشة يتابعها ملايين المتابعين فيدعي أن لديه في الفلاشة بجيبه ما يدين كل الأنظمة المتأمرة علينا ويقوم بإلقاء الكلام يسرة ويمنة لدرجة أن ينطق (ربما من حيث لا يعلم) بالتجديف أثناء تحديه لمن يحاوره فيقوم بإثارة المشاعر تجاهه وتجاه القضية التي يدافع عنها!!!

في واقع الأمر إن المحلل السياسي يمتلك كماً كبيراً من الصبر والليونة والتأهيل الذي يجعله أشبه بطبيب يتقصى ويتلمس مواضع القصور ومواضع التضليل.المحلل السياسي كيّس عاقل بالغ راشد يتحدث بميزان الاستراتجيات لا بميزان الصراخ وقبيح الألفاظ.

المحلل السياسي فنان مرهف يستطيع أن يتلمس بذور المشاكل وأن يطرح رؤيته في معالجة أصل نشوء الاضطراب ويسعى ما استطاع بحذاقة وبحصافة أن يعين على مد جسر إذا انقطعت الجسور بين المتحاورين أو بين الأطياف التي تشكل بناء وطنياً واحداً بدلاً عن أن يكون طرفاً محرضاً وقاهراً وداعياً على الفرقة وإسالة المزيد من الدماء. هو لا يتخيل ولا يتذرع ولا يعطي حجج غبية وتافهة عندما يتعلق الموضوع بشيء لا يفقهه أو ليس مسؤولاً عنه أصلاً بل ينحي عن نفسه الخوض فيما يجهل وفيما لا يعلم. ولا يتحدث بنبرة التشفي ولا بنبرة التهديد على الإطلاق.

يبتعد عن الأحكام المفرطة بالمثالية ويبحث في أدنى الاحتمالات ويتلمس دوماً كل طريق ليؤصل لوجهات النظر وقبول الطرف الآخر.

يعالج المحلل السياسي الأمور بوعي عميق ويبتعد عن الابتذال والعاطفية في محاكمة الأمور التي لا تقترن بدليل واضح تجعل من نقاشه مع الطرف الآخر ممكناً ومستمراً ومقبولاً.يمتلك من الشجاعة والحكمة ما يمكنه أن يتراجع عن خطأ أو عن رأي أثبت عدم جدواه أو عدم صوابيته ويجعل منه أرشيفاً يستدل به من يليه كي لا يقع في ذات ما وقع فيه من تعجل أو عدم موضوعية، وهذا بحد ذاته يعود على اعتياد احترام الرأي الآخر.

تتسم آراء المحلل السياسي عادة بالموضوعية والعلمية وبالحيادية فما يستقرأه المحلل لا يحمل رأيه الشخصي بل يتعدى هذا المطب كي لا يقع في سياق الذاتية التي تحرف اتجاه الأحداث. يضع في حسبانه كافة الاحتمالات المطروحة في محاولة لاستنتاج تفسير مقنع ومحايد للأسباب وكذلك للنتائج المتوقعة أو ما يقاربها في حالة الافتراض. يبتعد هذا الشخص الرصين عن الإقناع بالتهديد وإطلاق الاتهامات جزافاً ويتحرى بدقة أي ما يمكنه أن لا يقع بعائق إطلاق الأحكام من منطلق التخوين.

إن المحلل السياسي قد ينتقل لمقام أعلى كمستشار فيقوم بصياغة وإرشاد صانع القرار ويتدخل بايجابية بكل ما من شأنه إقرار السياسات الداخلية والخارجية على حد سواء. إنه مدرك لما يحيطه داخلياً وجيوبوليتيكاً مستوعب لدروس التغيرات الخارجية وأثرها المرتبط بتطلعات شعبه ومجتمعه فيأخذ كطبيب ماهر كل الأسباب التي تؤدي لتصحيح أي خلل قد يؤثر في خلخلة مجتمعه وينحيها جانباً ويشير إليها دون توجيهات أو إملاءات أمنية ترى خلاف هذه التوصية أو تلك وإلا فان النهاية ستكون عالم من الفوضى لا يدرك فيه الاستقرار والأمان.

عرف عبر التاريخ محللون سياسيون كانوا محل فخر من دولهم وممالكهم كأفلاطون وأرسطو وزرادشت وفي عصور أخرى وسيطة كان هناك جان جاك روسو و جون لووك ونيكولا ميكيافللي وغوستاف لوبون

أما في محيطنا العربي فقد عرف أمثال الغزالي وابن خلدون والشاطبي وأحمد ابن العباس ابن رشيد ابن حماد ابن فضلان ويعتبر من أهم المؤرخين والمحللين في القرن العاشر للميلاد.

يتوجب على المحلل السياسي أن لا يقع ضحية الوقوع في ما يتناقله العامة من تضخيم شأن المؤامرة الخارجية على أي من الشؤون الداخلية بل أن يحاكم الواقع محاكمة منطقية ومن ثم يقوم بوضع أسس للحلول تتناسب وحجم المأمول منه في استخدام عقله الذي يقرأ قراءة نقدية منفصلة عن ما هو شائع.

هذا لا يعني استبعاد المؤامرة بالكامل من الفكر النقدي ولكن المبالغة فيها تفقد هذه العقلية المفروض أنها مميزة توازنها العقلاني الذي يعطل ويجمد العقل عن التفكير في خلفيات ودوافع الأحداث ويلفت النظر عما هو واقع على أرض الواقع حيث أن تسمية كل حدث بأنه مؤامرة هو أكثر أنواع التحليل سذاجة، فمن ناحية يروج بفجاجة على قدرة الخارج الخطر من التلاعب بكل ما يحدث في الداخل، صغيره وكبيره، ومن ناحية أخرى يروج لفكر انهزامي استسلامي أن لا فائدة ترتجى من إحداث أي تغيير لأن هناك يداً خفية تجبرنا حتى على منع إلقاء القمامة في سلة المهملات!!!

بعد كل ما سبق هل يرقى أي ممن يظهر على شاشات التلفزة "المغرضة" بالنيابة عن الشعب السوري كي يحوز على لقب محلل سياسي يساهم في حل أو توصيف أي مما قد يقدم فكراً يخرجنا مما نحنا فيه من وحل التخوين وإلقاء التهم جزافاً؟