كثيرة هي الأخطاء التي نتظاهر بانها غير موجودة، فقط لأننا
لانرغب بالخوض فيها أو إصلاحها، و لكن لوأننا فقط حاولناأن ننظر بمنظار من يعاني
منها و يعيش معها كل يوم، لاختلف تعاملنا معها 180 درجة.
دعيت في أحد الأيام إلى حفلة في إحدى دور الأيتام، و لم أكن يومئذ متحمس جداً لهذه
الحفلة لأنني أعتقد أن الأيتام بحاجة إلى ما هو أعمق بكثير من مجرد حفلة مؤقتة، و
بعد أن ألقيت التحية على من أعرف و من لا أعرف وقفت جانباً أراقب الحفل المتكون من
فرقة موسيقية و ما يسمى بشارلي شابلن و ما إلى ذلك من الأمور المتعارف عليها في
حفلات الأطفال وفجأة شعرت بشيء يشد سترتي من الأسفل فنظرت فإذا هو طفل مصاب بالتخلف
العقلي (أو منغولي كما هو شائع بالعامية) ثم تعلق بساقي، فحملته و أسمى آيات
السعادة و السكينة ارتسمت على وجهه المنتفخ و عيونه الضيقة، و بعد فترة من الزمن
شعرت بأن يدي الاثنتين كلتا من حمله فأنزلته على الأرض، لم يعترض و لا انبس ببنت
شفة و اكتفى بأن أخذ يسعى و يرتطم بين أقدام المحتفلين و ذلك لصغر حجمه محاولاً أن
يجد شخصاً آخر ليحمله و فعلاً وجد و لا أعتقد أنه يمكن لأي شخص أن يرفض مساعدة مثل
هذا الطفل لأنه رغم إعاقته يحمل من براءة الطفولة الشيء الكثير و مطلبه كان واضحاً
و بسيطاً، ثم أنزله ذلك الشخص أيضاً بعد أن تعبت يداه فعاد ذلك الطفل إليّ يرجوني
من دون كلمات أن أحمله كرة أخرى ففعلت.
بعد أن عدت إلى البيت خطر على بالي السؤال التالي: إذا كان هذا الطفل المعاق ذهنياً
بحاجة إلى من يحوطه بالحنان و العطف، فما حال الأطفال الأسوياء ذهنياً إن صح
التعبير و الذين يعيشون في تلك الدار من دور الأيتام؟ ما حال من أتى إلى هذه الدنيا
و كلمة لقيط تطارده أينما ذهب دونما ذنب ارتكبه؟ و هل يعقل أن تكفي موظفة واحدة
لرعاية عشرة أطفال أو يزيدون؟ لماذا ينظر المجتمع بنفور إلى هذه الفئات؟ أولسنا نحن
من قال لنا رسولنا عليه السلام:" أنا و كافل اليتيم في الجنة هكذا" و أشار
بالسبابة و الوسطى.
و
المشكلة لا تنتهي هنا حيث أن هؤلاء الأطفال غالباً ما تراهم هائمين في الشوارع
دونما ضابط، و الشارع كما يسميه أحد علماء الاجتماع ( روضة أطفال الجريمة)، و
المشكلة أن المجتمع يطالبهم بالانصياع لقوانينه دون أن يؤمن لهم التوجيه و الوعظ.
و
عندما يكبرون يجدون معظم الأبواب مغلقة في وجوههم، نظراً لقلة خبرتهم و ضعف
التزامهم الأخلاقي مما يسبب انعزالهم على بعضهم و انحرافهم، و يعود المجتمع ليستنكر
هذا الانحراف.
كنت أعرف شبان ذلك الدار، معظمهم مهذبين بالحديث إن صح التعبير و لكن وجوههم تبدي
غير ما يعتمل داخلهم من نقمة على هذا المجتمع الذي نبذهم و عزلهم في تلك الدار بدل
أن يستوعبهم.
كانوا يحبونني فقط لأني كنت أسمعهم، كان هذا واحداً من المفاتيح التي ملكت بها
قلوبهم، أزورهم أيام الجمع و أستمع لما حدث معهم خلال الأسبوع و أشعرهم بمدى
اهتمامي بمشاكلهم.
لديهم مشاكل من جميع الأنواع (نفسية، اجتماعية، اقتصادية..) و رغم ذلك وجدت أنه
مازال لديهم أمل في أن يتزوجوا يوماً و أن يكون لهم بيت و عمل جيد و غير ذلك من
الأمور التي يحلم بها الشباب من أجل المستقبل.
و
الغريب في الموضوع أنهم دائماً يهددون بالطرد من الدار و هم لم يعرفوا لهم وطناً
سواه، أحيانا يخرج أحد الأطفال أو الشباب فلا يرجع، و لا يعرف له مكان و بالطبع لا
يسأل عنه أحد.
أحقاً يصعب على المجتمع أن يقدم لهم العون، طبعاً هنا لا يمكن لأحد أن ينكر دور بعض
الجهود الفردية و الجماعية لمساعدة هذه الفئة المغلوبة على أمرها. و لكننا بحاجة
إلى المزيد.