إذ أنّ الإنسان بطبعه عدوّ ما يجهل، و قد اعتدنا الكسل و العبودية خلال عقودٍ طويلةٍ مريرة بحيث بات تغيير أنفسنا أصعب بكثير من تغيير الآخرين! و أؤكد على أنّ طرحي ليس تنظيرياً جازماً بقدر ما يتطلب التدبّر و التفكّر و التفاعل للوصول منه إلى أفضل النتائج الممكنة و تبيان انعكاس ذلك على واقعنا قبل فوات الأوان و قبل أن نصبح على حاشية التاريخ.

عن الموت القادم من .. كلّ حدبٍ و صوب:

تمسّك الكثيرين – و من بينهم السوري البسيط الذي يكتب هذه الكلمات – بسلميّة الثورة لم يكن نتيجة تأثرٍ عاطفي بالشعارات و لا رومانسيةٍ فاضلة تحلم أن يهزم العطر ألم الشوك، بل كان تبصّراً للفارق الاستراتيجي و اللوجستي المهم بين النظام و الثورة، إذ بينما يتمتّع الأول بحق مخاطبة "الشرعية الدولية" إلى حين أن يتم تغييره رسمياً إضافة إلى المصادر المالية و العسكرية من مخزونه و من حلفائه، فإنّ الثانية لم و لن تُعامل سوى كالأيتام على موائد اللئام، إذ تشكّل بالتغيير الجذري الذي تنشده أخطر زلزال لتوازن المصالح الإقليمية و الدولية، و قد أُشبع هذا الأمر تحليلاً بما لا يكفي لردّ طفلٍ مشرّد إلى بيته.

لقد أدرك النظام بقراءةٍ مستعجلة لرياح التغيير المرافقة للربيع العربي أنّ من الاستحالة بمكان أن يصمد أمام ثورة، و لكنّ فرصته تكمن في تحويلها إلى حربٍ "محدودة"، فبالغ متعمّداً في القمع و الاعتقال و التعذيب و اقتحام المدن بالتزامن مع دعوة حوار غير مكتملة تقوم على (التفاوض على ما هو ممكن) تحت السقف الذي يحدّده من عدم الاقتراب من بنية النظام بل الاكتفاء بتغيير ديكوره، و كانت الذروة الأولى مع اقتحام حماه غرّة رمضان 2011 رافعاً مستوى العنف تدريجياً مع الوقت.

نعلم ما حدث بعدها، أهالٍ غاضبون و عسكر منشقّون، مجموعاتٌ متفرّقة تتخذ شكلاً (الجيش الحر) دون أن تكون متناغمة أو متوحدة تحت قيادةٍ حقيقية، بدايةً للدفاع عن الأهالي، مروراً بضرب الحواجز الأمنية و اغتيال شخصيات متعاونة – على ما تعتقد- مع النظام في حربه على الشعب، تفجيرات و من ثمّ تحرير قرىً و مدن صغيرة ثم أساسية مع الكثير من الانسحابات التكتيكية التي تطلق عنان وحشية النظام في بيئتها الحاضنة، انضمام قلة "مجاهدة" و الكثيرين من (تجّار الحروب) الكبار و الصغار من مجرمين و قطّاع طرق و مهرّبين، قبل الوصول الكبير للمجموعة المثيرة للجدل "جبهة النصرة لأهل الشام" و ضررها الأكبر بكثير من نفعها. في هذا الوقت حرص النظام على الحثّ بهذا الاتجاه معتقلاً أو قاتلاً كلّ دعاة السلميّة و مهجّراً لمثقفيها لإخلاء الجو للمتطرفين، و دفع أكثر باتجاه السلاح من طرف مؤيديه من بعد زجّ الجيش كمؤسسة وطنية يتوجب عليها الدفاع عن الوطنو أبنائه كلّهم ليتحوّل إلى حرس خاص لمصالح النظام، أصبح الجنود مجرّد أحجار شطرنج لا قيمة لها يتم التضحية بها حيث يلزم مع تركيزه الإعلامي على استشهادهم ليتاجر به و سماحه بتسريباتٍ مقزّزة لما يرتكبه بعضهم بالمدنيين بقصد الترهيب النفسي و الإذكاء الطائفي، و هذا له مقالٌ آخر. آخر ما تفتّقت عنه قريحة النظام بعد تجنيد كل زعرانه تحت بند "الجهات المختصّة" و من نعرفهم باسم الشبّيحة مع إطلاق يدهم في ارتكاب أقذر الجرائم بأبشع الطرق و مرةً أخرى لإدخال البلاد في أتون الحرب الأهلية عن طريق تجنيد اللجان الشعبية، هو أن يخوض بنساءٍ لم يمسكن يوماً بسلاح و فقط ليجعلها معركة وجود بالنسبة لكل مؤيديه و ليتحملّوا عنه وزر أعماله.

لقد حرم التسلّح أولئك المشاركين و الراغبين في المشاركة بالتغيير من متابعة الثورة بعد أن بات صوت الرصاص هو المسموع ليتراجع العمل المدني إلى حدّه الأدنى خاصة مع انشغاله بأعمال الإغاثة التي تحاول إفراغ النهر بملعقة، و رغم ازدياد عدد مسلّحي الثورة يومياً لكنّ دوافعهم اختلفت عن سابقتها، فبات الغضب و الانتقام يغلب عليهم و يؤجج رغبتهم القتالية على حساب سعيهم للعدالة و تحرير الوطن من قيوده، و سيتم استنزافهم و استخدامهم من قبل الدول التي تدعمهم بمقدار محدّد لا يصل إلى درجة تشكيل خطورة حيوية في المستقبل على مصالحها بجعلهم أعجز من الانقلاب عليها. تلك علّة السلاح، كالمخدرات و القمار، لا بمكن أن يحلّ مشاكل أكثر من تلك التي يخلقها، و إن تجاوزنا كلّ ما حدث حتى اللحظة، فالوضع الراهن يقول إنّ سوريين يقتلون سوريين، مهما يكن المعسكر الذي ينتمون إليه، و الدّم يجرّ الدم و نتّجه جميعاً ككرة ثلجٍ متدحرجة إلى سفح الوادي، و إن كان النظام راهن سابقاً على طول نَفَسِه المعتاد ليكسر شوكة المسلّحين من بعد أن همّش السلميين و بالتالي ليفرض شروطه في "الحوار الوطني" كما سبق و أكّد ذلك وزير الخارجية، فبحثه اليوم عن معارضين مفاوضين يدخلون دولاب الحوار ليس بسبب إنهاكه العسكري بقدر ما هو كسبٌ للوقت على حساب دمار الوطن و البشر.

لدينا في الكفّة الأولى إذاً جيشٌ ممزّق على مساحات الوطن بدل أن يتواجد على جبهتنا مع إسرائيل، يقاسي الجوع و الخوف و الحرمان من الإمدادات و انقطاع المعلومات، يتمّ شحن جنوده يومياً بحكاياتٍ عن جهاديين قادمين لذبحهم و أهلهم، ثم يقومون برميهم في مناطق اشتباك كثيرٌ منها لا يقدّم و لا يؤخّر و فقط بقصد الاستنزاف. يضاف إليهم من قام النظام بتسليحهم من الشبيحة و اللجان الشعبية و (سرايا الدفاع) قيد التشكيل ! و في الكفة الأخرى نجد مئات المجموعات المقاتلة تحت اسم (الجيش الحر) دون أن تكون بالضرورة منتمية له، مع فصائل إسلامية جهادية أبرزها جبهة النصرة. فات أوان مطالبة هؤلاء جميعاً بالتراجع عن التسلّح الذي بات اليوم أمراً واقعاً و مرضاً لا يفيد تجاهله بل يتوجب الاعتراف بالمعاناة منه و بحث سبل شفائه. كيف سيتصرف هؤلاء جميعاً في اليوم التالي لسقوط النظام ؟

بداهةً لن يلقي أحدٌ السلاح، فالمنتصر سيعمل على التأكد من تثبيت انتصاره و المهزوم سيتشبث بكل فرصة للدفاع عن حياته و حياة أهله، عدا عن المتربّصين بالسلطة في أحد أشكالها و لو حتى على جزءٍ من الوطن، دون أن ننسى الرغبة الإقليمية و الدولية في متابعة استنزاف سوريا تحت إشرافها و بشكل "مضبوط" و بطيء. بالطبع لا يوجد إمكانية لانتصار النظام عسكرياً بشكل حاسم، فالشعوب أطول عمراً و السوريّون ولّادون، و بمجرد خروج قواته من أية منطقة مهما صغرت فسيخرج عليه المتظاهرون و المسلّحون من جديد، حتى لو عادوا كما في بدايات التسلّح إلى بندقيةٍ بسيطة. و لذللك تركيزي هو على التطور المتوقّع الذي سيغيب فيه النظام بنيوياً عن المشهد و هو في الحقيقة ليس بأقل من الكابوس الحالي الذي نعيشه.

كما في كلّ هزّةٍ عنيفة، يُتوقّع حصول انفلات أمني منتشر خاصةً مع غياب قيادة الجيش العسكرية أو تعطيلها، يترافق مع حصول حالات انتقام أخطرها الجماعية و التي تتخذ الشكل المذهبي أو العرقي حيث لن تقف أية مجموعة مكتوفة اليدين بانتظار تصفيتها، و سيعمد الكثيرون إلى النزوح أو التهجير بشكل يفرز مكوّنات المجتمع السوري العديدة إلى جبهات متقابلة متصارعة محتمية في كانتونات مغلقة في وجه الآخر. على مستوىً أعلى، ستستمرّ القوى و الفصائل المسلّحة من الجيش النظامي و الكتائب المقاتلة بالتنازع على مناطق السيطرة الحيوية دون أي ضابط لمراعاة العمليات في أوساط المدنيين و خسائرهم في الأرواح و الممتلكات كما يحدث الآن أو أكثر، بينما تتسلّل عناصر القوى الأجنبية لتدمير القوة الصاروخية و الاستيلاء على المخزون الكيماوي و البيولوجي من الأسلحة، في حين سينشغل المهرّبون و المجرمون من كل الأطياف في استغلال الفوضى لسرقة الخزائن المالية و البضائع و المعامل و الآثار و مخازن الدقيق و الطعام و المحروقات و سواها، في حين يستمر غياب النازحين و المهجّرين و المعتقلين عن المشهد و ضياع حقوقهم.

قد يجد الكثيرون من مؤيدي النظام و الصامتين عنه في الصورة القاتمة المرتقبة سبباً كافياً للتمسك بموقفهم الحالي، لكن قليلاً من التبصّر و استقراء الوقائع سيقودهم إلى حتمية وقوع ذات السيناريو أو أسوأ فيما لو بقي النظام مستمراً في سياسته. من الأفضل تفجير خرّاج قيحٍ بعمليةٍ مؤلمة عوض انتظار تطوره إلى غانغرينا متعفّنة سامّة تقتل جسد الوطن بأكمله. فكيف السبيل؟

1-      لا يمكن المباشرة بأية خطوات عمليّة جادة ما لم يتم تشكيل قيادة سياسية سورية واعية و فاعلة و قادرة، تعلم تعقيدات الوضع الراهن و عواقبه و تأثيراته على الشعب، و يكون لها حضورها الحقيقي أمام الحكومات الدولية المختلفة و إقناعها بقدرتها على تولي زمام الأمور كي لا تنجرّ المنطقة المتوتّرة أصلاً إلى ما يهدد مصالحها، و الأهم أن يكون لها كلمتها الحاضرة في الداخل السوري و تمثله بمختلف شرائحه و توجهاته لتستطيع طمأنة مخاوفه و تحقيق آماله. وحدها هكذا قيادة ستكون قادرة على مباشرة جادة لخارطة الحل السياسي دون انتظار للتطورات العسكرية على الأرض إيجاباً أو سلباً.

2-      تجفيف منابع السلاح و الذخيرة لتخفيف وجودها ما أمكن، و هذا سيتطلّب الضغط على حلفاء النظام و ممولي التسليح بشكل متوازي، و هذا بحد ذاته سيدفع جميع المعنيين إلى مراجعة مواقفهم مع تيقنهم بحصول تغيّر في المسار القاتل نحو مستقبلٍ مختلف.

3-      العمل على تشكيل قيادة عسكرية موحّدة قويّة لكتائب الجيش الحر تكون قادرة على فرض كلمتها على الأغلبية الساحقة من مقاتلي المعارضة و مجابهة العناصر الخارجية في حال خروجهم عن الإجماع.

4-      رغم خطورة الطرح و معارضتي المبدئية لكل تمويل للتسليح، لكن خطوة إعلان (صندوق وطني لتمويل الجيش الحر) التي يُرتقب صدورها قد تكون ضرورية على قاعدة "الرّمد أفضل من العمى" و التي تجعل تمويلاً محليّاً للسلاح محرّراً له على الأقل من الارتباطات الأجنبية و ما يترتّب على ذلك الآن و مستقبلاً.

5-      ممارسة دورنا كأهالي في تنبيه شبابنا من الانجرار إلى العنف ممارسةً أو التشجيع عليه لفظاً، و ليس خافياً على أحد نسبة التخلّف عن الالتحاق بالخدمة العسكرية بسبب وعي الناس أنّها ليست حربهم و عدم رغبتهم في التورط بدم الإخوة في الوطن، و للسبب ذاته رفض الكثير من المجموعات الدينية أو المناطقية تسليحاً رديفاً رسمياً بحجة الدفاع عن وجودهم، و في المقابل لا يزال العديدون ينجرفون وراء دعوات "الدفاع عن الوطن" أو "عن الطائفة" أو كما في الطرف المقابل "عن راية الإسلام"، و هؤلاء من يجب أن نجنّبهم هذا التدهور و دفعهم للتنفيس عن إحباطهم و خوفهم بالانخراط في أعمال الإغاثة في كافة أوجهها الممكنة.

6-      كما بدأ النظام بالعنف عليه أن يبدأ أولى خطوات وقفه، فيتم الإعلان عن وقف شامل لإطلاق النار تحت إشراف دولي و انسحاب جميع قوى النظام الأمنية و العسكرية إلى مواقعها مع تأمين المرافق العامة و منشآت الدولة و مبانيها بالحد الأدنى، بالمقابل تعلن قيادة الجيش الحر عن وقف العمليات القتالية بشكلٍ تام إلى حين بدء مفاوضات الحل السياسي خلال مدة محددة. هذا الحل السياسي لا يفترض مفاوضاتٍ مع النظام المتسبب بكل هذه المأساة أساساً، بل يقوم على بحث سبل تسليم السلطة لمجلس قيادي مصغّر لا يتضمّن أيّاً من الأشخاص المتورطين مباشرةً في الدم السوري، و يشرف على تنفيذ خطوات المرحلة الانتقالية.

7-      بعد إخضاع العسكري للسياسي، يجب وضع خطة واضحة تقوم على توحيد البندقية السورية و بحيث يتم تشكيل جيش وطني جديد من جميع المتقاتلين و تنحصر مهمتهم في الدفاع عن المواطنين و حماية الحدود و ضبط الانفلاتات الأمنية، مع إمكانية استخدام حلول "غير مرغوبة" في الحالات القصوى مثل فرض حظر التجوّل.

8-      رغم الخشية المحقّة من المدى الذي يمكن أن تصل إليه الأعمال الانتقامية المتبادلة، لكن ليس بالإمكان الاعتماد على فكرة نشر قوات حفظ السلام الدولية على "خطوط النزاع"، فلو سلّمنا جدلاً أنّ الدول المعنية لن تتأخر في إرسال هذه القوات منتظرة موت أكبر عددٍ ممكن منّا كما فعلت سابقاً في رواندا و كوسوفو، و تجاهلنا رزوحنا تحت سلطة وصاية دولية و انتداب جديد يلغي سيادتنا الوطنية إلى أجلٍ غير معلوم، فإنّ الوضع "المؤقت" قد يتحوّل إلى تقسيم تام لأرض الدولة السورية أو في أفضل الأحوال إلى "اتحاد كونفدرالي" من مقاطعات متنافرة بقيادة مركزية هشة  بالكاد تجمعها أو تقدر على حل مشاكلها.

9-      في مجتمعنا الأبوي الذي لا تزال فيه كلمة "الكبار" ذات أهمية و تفترض الطاعة، سيكون من الضروري اجتماع هؤلاء من كل المناطق و المذاهب و القبائل للحرص على عدم المساس بالآخرين، و قد رأينا تجارب ناجحة خلال الثورة إحداها حلّ الإشكاليّات المرتكبة بين درعا و السويداء مثالاً. كما يمكن و بإشراف الدولة تسيير مجموعات حراسة مشتركة بين الأحياء تمنع حدوث أعمال طيش أو محاولات لتفجير الأوضاع المتقلقلة.

10-  العدالة هي الأساس الذي يقوم عليه أي مجتمع متماسك، و لهذا يجب وضع قضية المعتقلين و المفقودين و النازحين و المهجّرين على رأس أولويات المرحلة الانتقالية، و حصر قضايا الشهداء بالعمل عليها من آلاف اللجان المحلية التي تُنتخب بشكلٍ بسيط من قبل أهالي المنطقة لتشرف على تسجيلها و سيرها و تسليمها إلى هيئة قضائية مختصة.

قد تكون قضية السلاح هي أعقد ما سنواجهه جميعاً في المرحلة القادمة، و كل يومٍ نتأخر في معالجتها يكلّفنا الكثير من أبنائنا و مستقبل بلدنا، و رغم كل الصعوبة التي يكتنفها حلّها إلّا أنّ لا مفر من المحاولة .. قبل الاتجاه إلى الصوملة !