من مفرزات الأزمة السورية  . والتي تدمي القلب . وقد وصلت لدرجة بشعة جداً . ظاهرة المتسولين في الشارع .

إنها ظاهرة قديمة حديثة . ولكن هل كل من يسأل محتاج . وما هي الثقافة التي تنمو عليها هذه الظاهرة .

لاشك أن من يتسول الناس ويستجدي عطفهم من أجل حفنة من الليرات . إما أن يكون محتاجاً قد عضه ناب الفقر والجوع . أو أنه أمتهن التسول . فالتسول يدر أرباحاً مباشرة ويومية لا بأس بها . إن كان المتسول يعرف من أين تؤكل الكتف .

المشكلة التي ظهرت الآن . أنه هناك أشكال جديدة من التسول . وصلت حداً لا يطاق . فأينما التفت وكيفما مشيت ستجد فتاة يافعة بأثمال مهلهلة ووجه متسخ وبقع سوداء على يديها ووجها وثوبها . تجدها على الإشارة المرورية . وتجدها على الرصيف تفترش الأرض تتسول . وقد يشدك أحد من قميصك وأنت تسير في الشارع فتلتفت وتجده طفل أو طفلة صغيرة أيضا قد تهدلت عيناها وقسمات وجهها . وهي تنظر لك بعينين جامدتين وتتلو عليك النشرة التي حفظها إياها من يدير عملية التسول من الخلف . كأنها مندوب مبيعات يريد أن يطبق عليك ما علمه إياه مديره .. ولو كان غير واقعي ولا تتقبله نفسك .

وهناك النساء الطاعنات في السن . وقد لفت نظري واحدة معينة منهن . فأين ما صدفتها في شوارع دمشق ستسمع صوتها تبكي وتستجدي بطريقة باتت مكشوفة . وهي تبكي بلا دموع . وتردد نفس الجمل التي حفظتها عن ظهر قلب . وربما تلمحها أحيانا تعد ما جنته من أرباح اليوم . وإن مر أحد بجانبها صدفة تشرع بالبكاء وقراءة الأسطوانة نفسها دون أن تلتفت للمار . لعله يعطيها شيء ما . وأفكر ... لقد بدأت هذه المرأة البكاء باكراً . وستبقى تبكي إلى الأبد . فلن يسد عينها شيء بعد أن بذلت ماء وجهها بهذه الطريقة .

إنه منظر يدمي الفؤاد : أخشى إن لم أعطها أن أكون قد حرمت السائل المسكين . وإن أعطيتها أن أكون أساعدها على بيع ماء وجهها بهذه الطريقة المهينة . والمضحك المبكي . أنني كثير من الأحيان لا يكون في جيبي ولا ليرة واحدة . فأمر من أمامها فتبدأ تبكي وتستجدي وتنهمر علي بالأدعية التي تطلب بها من الله أن يحفظني وعيالي وووووووووو. يا الله ..

يا إلهي . ما الذي يحدث . لماذا ظهر فجأة أن الرقي والتمدن عند الإنسان السوري وكأنه تبخر في الهواء . أقسم بالله أنني في بعض الأحيان يمر علي أسبوع وأثنين وليس معي ثمن ربطة خبز . وقد كنت صاحب فعالية اقتصادية وعندي عمل .   وكم يؤلمني أن يطلب أحد أطفالي شيئا بسيطا من الطعام فلا أستطيع أن أؤمنه له . بسبب أنني لا أعمل منذ سنة تقريباً .  

ثم أفكر وأقول إنها حرب الأمعاء الخاوية . يريدون إذلالنا بالعوز والجوع والخوف . لن نتسول في الشوارع . ولن نعترف بالجوع أو الألم . ولن نهجر بيوتنا ولو وقعت فوق رؤوسنا . بل سنبقى نعيش كما كنا من قبل مع فارق بسيط . وهو أننا نتألم ولا يشعر بنا أحد .

 ولن نبكي .فنري أعدائنا دموعنا . بل سنتجرع الألم بصمت وبرجولة وربما  سنسامحهم على كل ما ارتكبوه  بحقنا . ليس من باب الضعف . بل من باب أننا ننظر بعين واسعة وصدر كبير يتسع أخطأ الجميع من حوله . ولا يضيق بصرنا فنقع في مصيدة الانتقام الأسود . نحن نعفو عن قوة . ولا ننتقم . ونبذل دماؤنا ولا نطالب بها أحد . بل نوكلها إلى الله سبحانه .

المتسول يبكي أمام الناس جميعا من أجل حفنة من الليرات . ونحن نبكي في سرنا في صدورنا . ونظهر النعمة أمام الناس حتى لا يتصدق علينا أحد .