لقد حصل النظام في سوريا على ضوء أخضر من المجتمع الدولي باستخدام كل وسيلة حربية ممكنة كي يستنزف جهود النشطاء السلميين الذين ثاروا للتخلص من قيود النظام الأمني المجرم باتجاه سوريا الجديدة سوريا التعددية والمؤسسات والقانون.

وأدت مداهمات الأمن لهروب كثير من الناشطين واختفاءهم، معظمهم من المثقفين، الذين يمتلكون وعياً كبيراً وكافياً. شكلّ هؤلاء باكورة المجتمع المدني المناضل لتحرير سوريا. استهدف النظام هذه الفئة بكل ما أوتي من قوة وراح يتصيدها، أفراداً ومجموعات، وينكل بها ويطيل في فترات اعتقالها كي لا يتم تنظيم الثورة، فيحدث الخلل الذي يريد، ويكون السيناريو الذي يرسمه.

بعض هؤلاء المثقفين ممن شارك لحظة انطلاق الثورة كان يحضّر لإطلاق شرارتها الأولى، عبر حديثهم الصريح عن خطايا النظام وعمالته للغرب وانه عبارة عن الدرع الحامي لإسرائيل، منفذا لمصالح كل دول الغرب في المنطقة، قائم على الفساد لا يمكن إصلاحه إلا بهدمه وإعادة هيكلته.

لكن النظام وبكل خبث ودهاء كان له ما خطط له، فعُسكرت الثورة بعد فترة طويلة من السكوت على دماء الضحايا المدنيين والسلميين من المتظاهرين وتشرذمت حسب أهواء الجهات الممولة للسلاح التي كان همها التأكد من نشر الأيديولوجيا الخاصة بها والغريبة عن المجتمع السوري قبل تزويد الثوار بقليل من السلاح القادر على استنزاف النظام والشعب معاً ولكنه قطعا ليس كافياً ولا مناسباً لتوجيه الضربة القاضية للنظام.
يقول "هو تشي منّة" عرّاب الثورة الفيتنامية وقائدها: إن أردت أن تفشل ثورةً فأغرقها بالمال، والثورة السورية أغرقت بمالٍ سرق بعضه وتركت فقيرة بالسلاح.

ويقول أحد الحكماء: البندقية التي لا يرافقها مشروع سياسي، هي إرهاب. في الثورة السورية في طورها المسلح الأخير بدأت بالظهور بعض عمليات التمويل المشبوه الذي ترافق بعدم وجود مشروع سياسي متناغم يترادف مع العمل العسكري المسلح.
بلمحة سريعة نستعرض مكونات الثورة السورية، ففي بداية الثورة خرج شبّان لله لا همّ لهم إلا رفع كلمة الحق في وجه نظام ظالم لا دين له ولا أخلاق وبالتوازي خرج شبان همّهم وضع قدم في سلّم الثورة للتسلق عليها في حال نجاحها أو أنهم كانوا قد استنتجوا بقليل من التفكير أنها ناجحة منتصرة لا محالة، إذ لم يحدث في تاريخ البشرية أن انتصر نظام مهما بلغت قوته وجبروته على ثورة شعبية.

وقد استمرت الثورة تستقطب كل المنشقين من صفوف "المؤيدين" إن صح هذا التعبير، الأمر الذي أدى إلى تواجد ناس نفعيين أدركوا بعد مضي فترة من الثورة أن النظام ساقط ولا بد من وجود بيئة جديدة حاضنة للتطفل عليها، فحدث أن انتقلت بعض مساوئ النظام للثورة ومرد هذا يعود لانتقال بعض الأطراف المنتفعة من طرف لطرف آخر وبترحيب غير مشروط من طرف الثوار الذين اعتبروا أن انشقاق هؤلاء هو تفكيك للجدار الحديدي الذي أنشئه النظام الفاسد عبر عقود من الظلم والتجهيل والإفقار.

ناهيك عن بعض العناصر المسلحة التي دسها النظام بين صفوف "الثوار" لإثارة الفتن والقلاقل وذلك عبر إفراغ سجونه من المساجين الجنائيين ليكونوا ذراعه، بالإضافة إلى اللصوص الذين حملوا السلاح وتسلقوا على الثورة لأهداف السلب والنهب والسرقة باسم الثورة.
وكرد متوقع من النظام لتكريس السيناريو الذي طالما خوّف منه لعب هذا الذاهب باتجاه الاندحار باتجاه صبغ الثورة بصبغة طائفية ليقنع أتباعه والأقليات أن حربه ضد مناوئي حكمه هي حرب دينية مقدسة لا تنتهي إلا بفناء أحد الطرفين، هو ومن معه على الحق ومعارضوه على الباطل.

بالمقابل بدأت المظاهر الدينية بالانتشار والدعوات للخلافة الإسلامية على أشدها، في ظل تعطيل النظام لأي واجهة سياسية وفشل ذريع للمعارضة الخارجية للتوحد وشبه انعدام لحقوق المكلومين والمستضعفين سوى عن بكائيات وتعاطف ظاهري من المحيط العربي والإسلامي وحتى الدولي دفعت الثوار للبحث عمّن يمول دفاعهم عن أنفسهم، فكانت الجماعات الإسلامية سبّاقة لتلقف هؤلاء وتجنيدهم في صفوف عسكرية مقاتلة لا يوجد في صفوفها في بعض الأحيان ضابط واحد بل قادتهم عبارة عن رجال دين "أمراء" منهم غير سوريين بويعوا على السمع والطاعة وهذا ما أدى إلى تقديم الكثير من التضحيات من صفوف الثوار دون مبرر نتيجة تكتيكات قتالية غبية، فالتنسيق غير موجود بين هذه الجماعات اللامتجانسة إضافة إلى قيادات مترهلة، أدت إلى الكثير من الانشقاقات عنها.

الشارع السوري بشكل عام يرفض كل هذه الأيديولوجيات فذكرى أبو القعقاع وعبد الغني قصاب وآخرون من قيادات بعض الجماعات الإسلامية، ممن قاموا بتصفية أتباعهم وتسليمهم للاستخبارات السورية التي كانوا سراً يتبعون لها لا زالت ماثلة في الأذهان، والشارع بطبيعته، التي لا يشوبها التطرف، يدرك أن ليس كل ما هو إسلامي هو ملائكي بالضرورة فقد استطاع المواطن السوري أن يميز مخالفة هؤلاء أنفسهم للشريعة الإسلامية في كثير من المواقف خصيصاً في ما يتعلق بأخلاقيات الحروب ومعاملة الأسرى من العدو وتحري الصدق في نقل الأخبار.

بعد تدفق المال وازدياد عمليات تهريب السلاح وتوالي الانشقاقات عن الجيش بدأ ظهور "المناطق المحررة" تباعاً لعدة أسباب منها:
- ضربات الجيش الحر المتتالية على أماكن لا تشكل أهمية للنظام ليحاول الاحتفاظ بها.
- تغيير إستراتيجية جيش النظام حسب أهمية الأماكن المعرضة للخطر (أحداث حلب ودمشق الأخيرة) أنموذجا واضحا عن تخلي النظام عن الكثير من الأماكن الحدودية وانسحابه لخوض أم معاركه في حلب.

- إتباع النظام أسلوب الأذرع الطويلة الضاربة التي تتمثل بالقصف المدفعي والطيران الحربي المكثف للأماكن التي تخرج عن سيطرته اتقاء شر الخسائر الفادحة في صفوفه والانشقاقات المتوقعة في الاقتحامات المباشرة.

هذه الأمور قطعاً أدت إلى تحرير بعض المناطق لتصبح مناطق محررة تحكمها الفصائل المسلحة التي لا تتبع بالضرورة للجيش الحر الذي يقوده رياض الأسعد من تركيا بل يتبع لأهالٍ من هذه المناطق يروجون أيديولوجيا مموليهم بالسلاح. 
ولسوء الحظ من الممكن أن ترى في البلدة المحررة الواحدة عدة كتائب تتخذ شعارات إسلامية ولكل منها أيديولوجيا مختلفة، وترى أيضاً العناصر المتسلقة التي تعتقد أن الثورة انتهت وانتصرت ساعة تحرر المكان الذي يقيمون فيه وبدأت محاولاتهم المتكررة في اقتسام الكعكة وجني ثمار ثورةٍ لم تنتهِ بعد.

وهناك اللصوص المتمرسون في تمويه سرقتهم تحت عباءة الثورة. وهناك أبناء العوائل الصغيرة غير المثقفة التي لم تظهر لها قيمة "كما يعتقدون" إلا عندما حملت السلاح الذي يتأبطه أفرادها إن أرادوا شراء بعض حاجياتهم من الأسواق!
وقطعاً هناك الشرفاء وهم كثر، أولئك الذين يؤمنون أن الثورة لا تنتصر بمجرد سقوط الأسد، بل هم متربصون بأولئك الذين يريدون استنساخ النظام مجدداً تحت مسميات أخرى إسلامية كانت أم غير ذلك.

يؤمنون أن النضال العسكري غير المنظم لا طائل منه بل هو سلاح تدميري لا تحريري، وأن النضال السلمي سيعود إلى مكانته المرموقة لا محالة، وأن الفكر الإسلامي الواعي والمعتدل الذي يضمن حقوق وحرية الجميع هو الذي يجب أن يسود بين أفراد المجتمع ولا مكان للإقصاء في سورية المستقبل التي نزفنا الدماء واعتقلنا وأنفقنا الغالي والثمين لأجلها.
وجود هذه الفئات اللا متجانسة أدى إلى بدء صراع لا زال "بارداً" بين أهل المنطقة الواحدة. فالكتائب المسلحة بمجملها تحذًر من بعضها، فالجهات الممولة زرعت الفرقة بين رفاق الخندق الواحد. والنتيجة كانت أن معظم من حمل السلاح بقي في بلدته المحررة تاركاً حلب ومعاركها وخطوط إمداد قوات النظام وكمائنها، وكلٌّ يتربص بمن يظن أنه سيسرق الثورة في بلدته "المحررة" والمال السياسي و"المؤدلج" زوراً، يثبت ويقدم البراهين مراراً بأنه مال يُنفق لتدمير سوريا وإطالة عمر النظام أكثر.

يمكن تصنيف هذه الجماعات المسلحة حسب أفكارها التي تروح لها في المناطق المحررة حسبما يلي:

1- "المتأسلمين" المموهين لانتمائهم السابق والفعّال لحزب البعث لدرجة خوضهم لبعض انتخاباته أثناء تفجّر الثورات العربية وقبيل تفجر ثورة الكرامة السورية بوقت قليل!!! هؤلاء ممن تسلحوا وأطالوا لحاهم بعد "تحرر" هذه البلدات وبدؤوا يتحدثون عن الحكم والخلافة الإسلامية الواجب تأسيسها. وعن ضرورة قتل العلويين "النصيريين" كما يسمونهم، بعد أن كانوا يرتمون في أحضان "المسؤولين منهم" للحصول على بعض المنافع الشخصية القيادية منهم في عهد ما قبل الثورة بقليل.

هذه الفئة تعادي النظام ولكنها تتقاطع معه في عدائه للإخوان المسلمين بحجة أن الإخوان طلاب سلطة؟!! علماً أنهم أي "المتأسلمين الجدد" لا يتركون الحديث عن الخلافة الإسلامية وشكل الحكم الجديد الذي لا "يضم غيرهم من الصالحين".
2- الجماعات الإسلامية "مدعية السلفية"
التي بدأت بتقسيم المجتمع والناس فور ظهورها إلى سلفي وصوفي وعلماني من جهة ومن جهة أخرى بدأت بتقسيم الناس حسب زمن انضمامهم للثورة متناسين أنهم لم ينضموا للثورة إلا بعد أن تم تسليحها، وهم لم يكونوا في صفوف المتظاهرين السلميين الأوائل، الذين عرضوا أنفسهم لخطر القتل والاعتقال نظرا لرفضهم حمل السلاح الذي يستطيعون عن طريقه الدفاع عن أنفسهم أثناء المظاهرات.
لقد تناسى هؤلاء تاريخ الإسلام العظيم والعطر حيث أن خالد بن الوليد رضي الله عنه، على سبيل المثال، هزم جيش المسلمين في معركة أحد، وأسلم في وقت متأخر، ولكن إمكانياته العسكرية التي لاحظها فيه نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، جعلته يقود جيوش المسلمين ويحقق كثيرا من الانتصارات على أعداء المسلمين.
والصحابي الجليل عمرو بن العاص، رضي الله عنه، طارد المسلمين المهاجرين إلى الحبشة وطالب النجاشي بتسليمهم لمشركي قريش وزبانيتها، أسلم أيضاً في وقت متأخر، ولكن إمكانياته السياسية ونبوغه العسكري، التي لم يغفلها الصحابة الأوائل، سمحت له بأن يكون والياً على مصر.
هذه الفئة تبحث عن تمويل بشكل دائم رامية نفسها في أحضان الجماعات الممولة الإسلامية الخارجية أو تلك المجهولة الاتجاهات مقابل بعض التنازلات كتقديم البيعة والطاعة لأمراء هذه الجماعات، والسماح لهم "باحتلال" منابر المساجد وتعيين إمام غير سوري، لتحويلها إلى منبر طائفي بامتياز يتوعد بالويل والثبور وعظائم الأمور للعلويين بتعميم اسود مقيت قاتل.

غير ناسين تصوير هذه الخطب النارية بكاميرات تصوير عالية الدقة لعرض هذه المقاطع على القنوات الفضائية التي بدورها يعرضها الإعلام السوري عبر أقنيته الإلكترونية ليثبت للعلويين أن ما يخوفهم منه صحيح وواقع، ولا سبيل أمامهم إلا الاستمرار بالقتال دفاعا عنه حذر الذبح على أيدي المسلمين السنة!
3- جماعات إسلامية لها قيادات كانت تعيش في أوروبا لعقود من الزمن، ونعموا واستفادوا وخضعوا بإرادتهم للديمقراطية الغربية، فقدروا على تنظيم صفوفهم هناك، وقدموا دعماً كبيراً للثوار في سورية ولكن دعوتهم تدل على نفاق كبير فهم من اكبر الرافضين للديمقراطية كونها غير موجودة في الإسلام!!!. وأنها كلمة يونانية وما إلى هنالك من "هرطقات" لا ترقى إلى مستوى "التخبيصات" الفكرية.

وفي المناطق المحررة نجد فئات المثقفين التي شاركت ببداية الثورة والتي تم اعتقالها وعوملت بكثير من الإهانة والتنكيل من قبل نظام الإجرام وبعد خروج هؤلاء من المعتقلات تم تحييدهم بالكامل لصالح فئة من المثقفين ممن دعموا عسكرة الثورة.
منهم من رفض أن يكون شاهد زورٍ وراح ينتقد أخطاء الثوار والنظام معاً غير آبه برشقه بتهمة "التنظير". ومنهم من التزم الصمت، ومنهم من هبط لمستوى الشارع ملاحقاً لبوصلة الغرائز الشعبوية التي تتأجج وتشتعل عشية كل مجزرة يفعلها النظام.

بدل توعية الشارع وجعله يحلق إلى مستوى الوعي غير المتعلق بردات الفعل بل بمآلاتها، ظنا منه أن هذا الخيار سيجعله يتبوأ منصباً مهماً بين الثوار ومنهم من تم لهم ذلك بالفعل، فممنوع في عرف هؤلاء المثقفين انتقاد الثوار وتصرفاتهم حتى وإن دفع أهالي المنطقة المحررة كلها ثمن خطيئة ثائر بتهور لا يحمل الوعي المناسب أو الكفاءة لاتخاذ قرار عسكري حاسم! لقد ظهر من بين المثقفين الذين ساندوا العسكرة من راح يبرر سرقة بعض الثوار لسيارات من اتهموا بتهمة "التشبيح" وسرقة بيوتهم واعتبار مقتنيات هذه البيوت هي "غنائم" للثوار، علماً أن لا الثوار ولا المثقفين المبررين لهذه الممارسات يمتلكون أدلة قاطعة على أن هؤلاء من الشبيحة.

بعض المثقفين لم يجدوا طريقة لجعل كلامهم مسموعاً بين فئة المسلحين إلا الانخراط في صفوفهم وتشكيل كتائب مقاتلة "شكلية" اتقاءً لوصفهم من قبل بعض الثوار أنهم "أي المثقفين" ثوار درجة ثانية!! وبرأيي أن هذه النوعية من المثقفين ضحت بثقافتها رخيصةً مقابل رصاصات صدئة في بندقية لا تعمل.

المظاهرات في المناطق المحررة بشكل عام بحاجة للتنظيم وتفتقد للإنفاق الذي يذهب بمجمله إلى الأعمال المسلحة، فعدد المظاهرات أصبح أقل عدداً عن سابق عسكرة الثورة لعدم رغبة الكثير من المتظاهرين بأن يكونوا حاضنا شعبياً لأناس يحاولون سرقة الثورة وإخفائها تحت العباءة الدينية، كما أنهم لا يرغبون بأن يكونوا حاضنا شعباً لأناس يعانون من أزمة حادة في الهوية تتمثل بارتداء ملابس أفغانية أو ليبية أو ربطات رأس سوداء لم نعهدها في كل تاريخ المنطقة التي تشهد عروضاً للأزياء الجهادية بدل الالتفات لما ورائيات الجهاد وقيمه العليا والكبرى التي تحرر الإنسان من الجهل ومن التسلط ومن الاستعباد وترفض حتماً الظلم وقتل النفس بغير الحق.

الحياة السياسية في المناطق المحررة لم تختلف عن الحياة السياسية في عهد النظام ما عدا كسر حاجز الخوف في مقاومة النظام.
فالرأي الواحد لازال قائما وفاعلاً، ولا حياة ديمقراطية تذكر في هذه الأماكن، ولا تشاور يذكر بين المسلحين والأهالي على إدارة شؤون المنطقة التي يعيشون فيها فالمثقفون المعينون تعيينا في اللجان المدنية يرفضون رفضاً قاطعاً القيام بأية انتخابات لإعادة تشكيل هذه اللجان ربما خوفا منهم على مراكز اكتسبوها يخافون فقدانها.

ومن حججهم أن الشعب غير مستعد للانتخابات مكررين جريمة النظام التي تقول أن الشعب السوري يحتاج ثلاثة أجيال ليفهم الديمقراطية. والحجة الأخرى أن سوريا لم تتحرر بالكامل ولا زلنا في حالة صراع مع النظام، ولا جدوى من انتخابات ديمقراطية!! وهي ذات حجة نظام الممانعة الذي كم الأفواه بحجة صراعه مع إسرائيل!

يخلط المسلحون بين السلطة والتسلط في المناطق المحررة كما كان يفعل النظام تماماً فقد أعطوا لأنفسهم الحق بسبب وجود أسباب (القوة) بين أيديهم كي يكونوا القاضي وجهة الادعاء والجلاد بآن واحد وبدل أن تزول الفوارق بينهم وبين البسطاء زادت تلك الرهبة في بعض الحالات مع استخدام العنف والقسوة مع الموقوفين أو استخدام سياسة التخوين والتكفير مع الذين يختلفون معهم بالتوجه الفكري، التهمة حاضرة وهي مناصرة نظام الإجرام، النتيجة تكون النيل من كرامة الناس، بدون التأكد من صحة الاتهامات الموجهة إليهم.

ولم يكن لديهم على سبيل المثال من اختص بالتحقيق مع الموقوفين بحرفية وبشكل قانوني رغم وجود الكثير من المحامين أو القضاة الأحرار، لقد جعل المسلحون من أنفسهم مركزاً للمسؤوليات، ولم يقسموها ولم يتعلموا احترام الاختصاص، والفصل بين حدود السلطة والتسلط ولم يتعاملوا مع الأمر وكأنه تكرار لجريمة النظام، التي كانت المسبب الأساس الذي ثار بسببه الناس.
فشلت الكثير من المناطق المحررة بتأمين أنموذج متكامل يدير تلك المناطق بطريقة حضارية تدل على تشكل وعي حول كيفية إدارة الدولة المقبلة حيث كانت إدارة تلك المناطق غالباً تتم بطريقة اعتباطية عشوائية ومردّ هذا الفشل يكمن في أن من قام بإدارة مثل هذا المفصل الحياتي اليومي لشؤون المواطنين والسكان لا يمت بصلة للطريقة التي يتم فيها تقديم الخدمات المدنية وخصيصاً بعد أن تدهور هذا الشأن التخديمي بكافة مفاصله المتعلقة بتوفير الكهرباء والمياه وخدمة الاتصالات والنظافة وإعادة تأهيل الطرق التي كانت جميعهاً تتضرر جراء الاشتباكات اليومية بين الثوار المسلحين وجيش النظام.

لم يكتف المسلحون بتهميش وإيلاء مثل هذا الشأن لمن لا يفقه فيه بل تجاوزوا في عدة مناطق شأن الالتحام مع لجان المناطق المدنية وتأمين بعض متطلباتها الحياتية اليومية وجعلوا من هذا الأمر شأناً ثانوياً لا يدخل في صلب اهتمامهم ويعود هذا لسببين أولهما فرار الكثير من السكان من المناطق المحررة وثانيهما وهو الأشد أهمية التملص من مسؤولية ما لحق من خراب بالبنى التحتية التي تضررت جراء الاشتباكات مع جيش النظام وأتباعهم وإلصاق المسؤولية الكاملة وبشكل متواصل بما ألحقه نظام الإجرام من تخريب حتى يوفر المسلحون على أنفسهم مالاً لتأمين ما لحق بالسكان من خراب وتدمير وسوء إدارة لشؤون حياتهم اليومية.

وحتى أكون أميناً كان هناك بعض المناطق المحررة التي أولى الثوار المسلحون فيها الاهتمام البالغ بشؤون المواطنين التي تتعلق بالبنى التحتية ولكن كان هذا بسبب ارتفاع أخلاقيات ومسؤولية الثوار المتواجدين في تلك المناطق.
أخشى ما أخشاه أن يكون حال الثورة السورية كما حدث على لسان الشاعر اليمني المعروف عبد الله البردوني:
والأباة الذين بالأمس ثاروا.... أيقظوا حولنا الذئاب وناموا حين قلنا قاموا بثورة شعب.... قعدوا قبل أن يُروا كيف قاموا.... ربما أحسنوا البدايات لكن.... هل يحسون كيف ساء الختام؟

رغم كل ما سبق من انتقادات، لا زلت أراهن على وعي الشعب السوري الذي سيسقط النظام ويحول المتسلقين إلى حطب لمرحلة قادمة بعد تعريتهم أمام أنفسهم وأمام المجتمع السوري الذي سيدمن إسقاط الطغاة في كل زمان.

فالحاضن الشعبي المتمثل بالشعب السوري لا يمكن الاستهانة به ولا ينبغي الاستهانة والاستهتار بتضحياته من قبل حملة السلاح مهما كان اتجاهاتهم ومشاربهم الفكرية.

وإن كان هذا الحاضن الشعبي صامتاً حتى الآن على أخطاء الثوار المسلحين التي تتزايد فلا يجب تفسير هذا الصمت على انه عجز أو وهن بقدر ما هو وعي لضرورة المرحلة واختصاراً لفاتورة كبيرة من التضحيات.

أنا أكيد أن هذا الشعب سينتفض مجددا بوجه من تسلق على آلامه واستهتر بمعاناته، وسيحطم من حول صراع الشعب ضد النظام لصراع أيديولوجيات دخيلة.

وسيكرّم الشرفاء الذين عملوا بصمت وعانوا ما عانوه لأجل إعلاء كلمة الحق وهزم الظلم والظلام. قناعتي الشخصية تقول أن التكريم سيكون بإقامة العدل ودولة القانون والتعددية، وتطبيق الأهداف التي نادى بها المتظاهرين يوم صاحوا "هي لله لا للسلطة ولا للجاه".