سورة الكهف – الآيات 34 و 39 و 40

لا أعرف حول العالم بقعةً صغيرةً كهذه الأرض تضمّ تلوّناً عرقياً و دينياً مذهلاً يفوق حجمها، فمنذ وُلدت فيها الحضارة و مرّت على التاريخ تكتبه استوعبت كلَّ الأقوام و المذاهب و الأفكار، و اليوم نجدها تضمّ عرباً و كورداً و أرمناً و تركماناً و آثوريين و شركساً و سريان، و يتصاهر فيها مختلف جماعات الإسلام من مذاهب السنّة المتنوعة و الشيعة الإماميّة (الإثني عشرية) و العلويّة و المرشديّة و الاسماعيلية، و الموحّدين الدروز و المندائيين (الصابئة) و الإيزيديين، و أكثر من عشرة كنائس مسيحية رئيسية من الروم الأرثوذكس و الكاثوليك و البروتستانت و السريان و الأرمن و الكلدانيين و المارونيين و شهود يهوه و غيرها، عدا عمّن فقدته من يهود! ناهيك عن طيفٍ واسعٍ جداً من المذاهب السياسية و الأفكار الإنسانية، تبدأ من أقصى درجات الإسلام السياسي السلفي إلى الإلحاد الكامل، و من القومية العربية و السورية و الكوردية إلى الليبرالية و الماركسية و الشيوعية و العلمانية و الأصولية.

لقد عاشت (و لم تتعايش أي بحكم الضرورة) كافة مكونات الفسيفساء السورية سويةً خلال مئات السنين دون حوادث اقتتال و اضطرابات تُذكر إلّا فيما ندر (مثل فتنة دمشق 1860 و التي حمى فيها المسيحيين من الإبادة عقلاء "الأغلبية" السنية، و مذابح الأرمن التي استخدم العثمانيون لتنفيذها القوميين الكورد)، و ما يلفت النظر أنّ هذه الحوادث حصلت في عهد انحطاط الدولة الحاكمة أو سقوطها أو خضوعها لمشيئة الأجنبي، و في لحظات الوجود المصيري كان تكاتف السوريين على اختلاف ألوانهم أكبر من أن تختصره الكتب، مثلما واجهوا معاً الحملات الصليبية و الغزو المغولي و الاحتلال الفرنسي.

و اليوم يخرج علينا العالم شرقاً و غرباً ليعبّر عن "قلقه" على مصير الأقليات "فيما لو سقط النظام" و كأنّ مصير كل الناس الذين استُشهدوا و يُستشهدون كل يوم من "أكثريّة" أو "أقليّة" لا يؤخذ في الحسبان تماماً كمصير "الجميع" فيما لو بقي النظام على سياسته التدميرية ! هذا النفاق الذي يداري به الجميع ارتياحهم لتدمير الدولة و كسر دورها الإقليمي و إخضاع إرادتها بهدم اقتصادها و تبعية قرارها لمن يتكفّل بإعادة إعمارها، يحاولون به استغلال كذبةٍ تُسمّى "الخوف على الأقليات"!

لو حاولنا أن نسمح لمنطق الأرقام القبيلي أن يأخذنا للحظات، نجد أن سوريا إثنياً تتكوّن من "أغلبية" عربيّة في حدود 75% من سكانها مقابل "أقليات" كبيرة 15% من الكورد و 5% من التركمان إضافة إلى البقية. الأغلبية العربية تتوزع على كافة الأديان و المذاهب المعروفة، و بغياب إحصائيات جادة و الاكتفاء بالأرقام المتوافرة وفق مصادر متعددة، يمكن أن يكون ثلثا العرب من المسلمين السنّة، أي بحدود خمسين بالمئة من السوريين هم "عربٌ سنّة"، و في حال تجاهلنا لاستحالة النقاء العرقي في منطقتنا فلا يمكن أن ننكر توزّع هذه الفئة مناطقياً و فكريّاً، فلا يستوي من ينتمي إليها من سكان حلب و دمشق و حمص مع أولئك في الساحل و الجزيرة، يختلف أهل الريف عن أهل المدينة و أؤكد أن الاختلاف ليس فكرياً فحسب بل عقديّ أيضاً ! مما يجعل هذه "الأغلبية" عبارة عن مجموعات من الأقليات!

الأمر ذاته يمكن تطبيقه على التكوين الديني الطوائفي، فمقابل 65-70% من السنّة تتواجد "أقليات" كبيرة من العلويين 15% و المسيحيين 10% (انخفضت نسبتهم من 20-25% في ستينات القرن الماضي نتيجة الهجرة المستمرة التي يشجعهم الغرب عليها بمنحهم تسهيلات خاصة، إضافة إلى السياسة التمييزية ضدهم التي أقرّها النظام الحاكم في دستوري السبعينات و الحالي و قوانين الأحوال الشخصية) ، و هذه "الأغلبية السنيّة" لا تتوزع فحسب على مذاهب و طرق و مدارس شتّى و لا حتى على اختلاف مناطقي – ثقافي واسع بل أيضاً على انتماءات فكرية عديدة بعيدة عن الانتماء الديني، مما يجعلها أيضاً تجمعاً لمجموعات "أقليّات" !

بإمكاننا أن ننظر إلى الأمر بهذا المنظور القبلي البدائي الذي يقول عنه زياد الرحباني "هيدا بلد!؟ لأ مش بلد .. هيدا قرطة ناس مجموعين .. لأ ..... مقسومين"، و بإمكاننا ببساطة أن نكون كما كنّا عبر التاريخ: سوريين، بأغلبية وطنية تؤمن بالحق و العدالة مقابل أقليّة مجرمة فاسدة تحاول الاستيلاء على وطننا و حياتنا و مستقبل أولادنا.

لكن هل من الممكن أن يكون السوريّون شعباً طائفياً؟ هناك خطوطٌ رفيعة تفصل بين الكلمات، فالتعصّب حالةٌ شائعة تأخذ درجاتٍ مختلفة تتراوح من التعاطف و التجمّع مع المشابهين (عرقياً أو مناطقياً أو مذهبياً أو فكريّاً) إلى الدعم المطلق لهؤلاء المماثلين و الانغلاق ضمن دائرتهم و لكن مع الحفاظ على علاقات طبيعية و صحيّة – و إن كانت أقلّ وديّة- مع بقية فئات المجتمع، و الطائفية حالةٌ أشدّ يحدث فيها تحصّن بالقبيلة المُنتمى إليها و قطيعة شبه كاملة مع المجموعات الأخرى تقوم على الكثير من "الخرافات" التي تعمل على تبرير النفور، أما أخطرها فهي العنصريّة التي تصبح فيها القبيلة مقدّسة لا يأتيها الباطل من بين يديها و لا من خلفها، و تكون القبائل الأخرى مصدر خطر على وجودها يستدعي إلغاءها أو استعبادها.

ضمن هذا التفكير، نستطيع أن نقرأ تاريخاً حضارياً للسوريين سادته روح الانفتاح و معرفة الآخر المتنوّع مهما كان مختلفاً، مع درجات متمايزة من التعصّب حسب الثقافة و المنطقة و الحقبة التاريخية. استمر الحال على ذلك إلى ستينيات القرن الماضي حين بدأت و نتيجة ظروف عديدة يعرفها السوريون - قد نتعرّض لها بالمزيد من التفصيل في مقالٍ لاحق- تناقضات القبلية و الفئوية تطفو على سطح العلاقات الوطنية، و خلال خمسين عامٍ من حكم حزب البعث عمل النظام الحاكم على ترسيخ هذه التناقضات و تسويق نفسه بصفته الضامن الوحيد لمنع اصطدامها و عامل الاستقرار الأكيد ليستخدمه كورقة ابتزاز لدى أوّل اهتزاز، ليتنامى حجم الطائفية المستعرّة تحت الرماد و تظهر في الأحداث الحالية بعض المواقف العنصرية.

لقد خرجت علينا مستشارة الرئيس السوري بثينة شعبان في أول تصريح بعد أسبوعٍ من انطلاق الثورة بعبارة هستيريّة لا محلّ لها من الإعراب ضمن تلك اللحظة: هذه فتنة طائفيّة ! رغم أنّ مصوّر مسيرة سوق الحميديّة التي انطلقت معها الثورة كان يؤكد باطمئنان و بلهجته الساحليّة المحبّبة أنّ جميع السوريين بجميع طوائفهم سيقفون معاً لمواجهة النظام! خلال قرابة السنتين، حاول النظام -  و نجح في كثيرٍ من الأحيان- استثمار التناقضات الداخلية في المجتمع السوري (التي هي ذاتها نقاط قوة حضاريّة عندما تُحسن القيادة صياغتها) لضرب الثورة و تقديم نفسه للعالم كضمان حماية للأقليات و كأنّها لم تعش من قبل أن يستولي على الحكم مئات السنين مع بقية أفراد الوطن، لذلك كان حقده على مدينة السلميّة بتجانسها الطوائفي الفريد فأعمل فيها الاعتقال بوحشيّة فوق العادة في البدايات عندما خرجت في المظاهرات، و قام مؤخراً – أو على الأقل قام بتسهيل – ضربها بتفجيراتٍ مؤلمة عقاباً على سحبها هذه الحجة منه على الملأ.

ذات الأمر تكرّر مع فئات أخرى، فقد حاول شراء ولاء الكورد في بداية الأحداث بتسوية أوضاعهم و رفع الظلم عنهم فلمّا أصرّوا على سوريّتهم و الاستمرار في الثورة مع إخوانهم نالوا نصيبهم من القتل و التهجير، قبل أن يتم تسليم أمورهم وفق صفقةٍ وضيعة إلى حزبٍ انفصالي يقوم بقمعهم و قتال الثوار بالنيابة عنه و إقلاق راحة تركيا مقابل المزيد من السلطة المحليّة. أيضاً عندما رفض المسيحيّون تسليحهم "شعبياً" مدّعياً قلقه عليهم من الثوّار لاحقتهم التفجيرات في مناطقهم و تناسي قراهم من أيّة حماية كي يتعظ البقيّة و يبقوا على موقفهم "المساند" له خوفاً من القادم.

في كل الأحوال، نجح النظام و أعداؤه الخارجيين على حدٍّ سواء في إحداث حالة "اصطفاف طائفي" ضمن سوريا، بحيث بدا أنّ الأقليّات متمسّكة بالنظام في حين ينتمي الثوّار إلى طائفةٍ وحيدة من الأغلبية و يتمّ نعتهم بمتطرفيها في حين يكون الموالون منها هم المعتدلون الوطنيون! فتمّ في البدايات التركيز على استحضار شيخٍ مغمور على قناةٍ طائفية و إشاعات القتل على الهوية و حوادث منفصلة و اختراع شعارات و هتافات تمييزية، و من المفجع أنّ كثيراً ممّا اخترعه النظام بات بعد أكثر من عامٍ و نصف على انطلاق الثورة واقعاً في كثير من الأحيان و إن لم يصل إلى درجة المنهجة التي اتّبعها النظام في استثارة أفراد طائفة "الأغلبية" خصوصاً مع التسريب المتعمّد – و لأوّل مرّة في تاريخ الجيش حيث يُمنع التصوير تحت طائلة العقوبة – لفيديوهات تعذيب و إهانة و قتل وحشي من قبل أفراد في الأمن و الشبيحة و الجيش بلكنةٍ مميزة لمنطقتهم (و افتراضياً لطائفتهم).

و لماذا يُقدم النظام على أمرٍ كهذا؟ الأمر يتعلّق بجوهر مفهوم الإنسان لنفسه، أي هويّته المركّبة من تفاعل العديد من المركّبات القوميّة و الدينية و الثقافية و البيئية و التاريخية و الاقتصادية و العائلية العشائرية، فهي تتمثّل جميعاً و معاً في كل فرد و تُترجم في اللاوعي الجمعي كهوية أمة. في حالات الخطر الذي يتهدّد إحدى هذه المركبّات، تبرز إلى السطح طاغيةً على ما سواها و بحيث تبدو و كأنها تختصر هوية المرء – و الأمة تالياً – ليصبح كامل وجوده مرتبطاً بها و الدفاع عنها مسألة حياةٍ أو موت. لقد قرأ النظام قيام الثورة بشكلها الصحيح: ثورة الناس بمختلف فئاتهم للدفاع عن وجودهم النفسي في جزئيتي الكرامة و الحريّة و عن وجودهم المادي في جزئية محاربة الفقر و الفساد اللذين رسّخهما النظام. و وفق قاعدة فرّق تسد، كان لا بدّ من تفكيك هذه الفئات بتغيير مركّب الهويّة الذي تدافع عنه، و ليس هناك ما هو أسهل من استثارة المشاعر الدينية و الشعور بالاضطهاد باستحضار أشباح الماضي إلى اللحظة الحاضرة.

لا يمكن أن ننكر نجاح النظام إلى حدٍّ بعيد في خطته الشنيعة، خاصةً أنّه قد وضع أسسها منذ عقودٍ طويلة، و ليس بالإمكان إصلاح جريمته في تعميق الشرخ النفسي بين أفراد شعبنا و مكوناته بين يومٍ و ليلة، و إن كان تدمير الحجر سيستغرق شهوراً ليُعمّر فإنّ تدمير البشر سيستغرق سنواتٍ طويلة من استعادة الثقة و الإخوّة الحقيقية المبنيّة على قيمة المرء بعمله لا بـ "قبيلته". الطريق الطويل لنجاحنا في ذلك يستلزم أن نعكس الخطوات التي اتّبعها النظام ليوصلنا إلى هذه الحالة من التشرذم:

أ‌-        محاربة الجهل و العمل على ترسيخ سياسة تعليمية تقوم على إشغال العقل بالوقائع و الحقائق و إتاحة مصادر المعلومات و تنقيتها ليتمكن الجميع من فهم العالم و رؤية أنفسهم و الآخرين بشكلٍ أوضح و أصدق.

ب‌-    محاربة الفقر و البطالة، فالبيئة الفقيرة تعدّ أخطر حاضنة للتطرف بمختلف أشكاله و تهيئة العقل الجماعي لها لتقبّل أيّة دعوة تعلي من شأنها دون مبالاة بالقيم و الحق و صالح المجتمع و الوطن.

ت‌-    جعل العدل أساس الحكم، و الكفاءة أهمّ مؤهلات المنصب. فقط في دولة القانون حيث يتساوى الجميع و يخضعون دون تمييز لذات الأحكام، يمكن أن تنشأ بين مختلف الفئات علاقاتٌ نديّة و متوازنة لا تعتدّ بالكثرة أو بالسلطة معياراً للتعامل فيما بينها.

ث‌-    إعادة تشكيل مفهوم المواطنة و إحلاله مكان مفهوم القبيلة، و دون أن يعني ذلك بحال إلغاء مركّب الهوية الطائفي أو القومي بل إعادة تموضعه، بحيث يلتغي الخمول الحضاري الناجم عن الاطمئنان إلى كثرة عديد القبيلة و ما يقابله من من خوفٍ زوري (paranoiac) ناجم عن عقدة اضطهاد لقلّة، و لا تكون هناك ضمانة محاصصة (quota) لكل فئة بل فقط الكفاءة و العمل هي سبيل تقدّم و تطور أي شخص أو مجموعة و ضمن الصالح العام و إرادته، و عندها لن يجد السوريّون غضاضة في أن يكون النظام بأسره مكوّناً على سبيل المثال من الكورد الصابئة ما داموا يحكمون الناس بالعدل و وفق الدستور الذي اتّفق عليه الجميع دون غبنٍ لأحد من كثرةٍ أو قلّة.

لن تكون سوريا هي سوريا إن فقدت أيّاً من أبنائها و جماعاتها، لقد ملأ القيح جروحنا و لا بدّ من فتحها لمعالجتها، و سيكون العلاج طويلاً و مؤلماً لكنه يستحقّ كل المعاناة لنسلّم أولادنا سوريا يفخرون بالانتماء إليها كما نشعر في أعماقنا، و عندما نشعر بالتعب و اليأس فلننظر بعض النجوم في سمائها: فارس الخوري، سلطان باشا الأطرش، ابراهيم هنانو، الشيخ صالح العلي، محمد الماغوط، سميح شقير، حنّا مينا، بدوي الجبل، يوسف العظمة، ممدوح عدوان، أبو خليل القباني، أسمهان، محمد كرد علي، نزار قباني، مصطفى العقاد، سعد الله ونّوس، جودت سعيد، لينا شماميان ... أتأملهم جميعاً و يملؤني الفخر و الاعتزاز، أنّي مثلهم .. سوري.

 
اقرأ ايضاً :