الخط البياني للنظام في تراجع...وازدياد دوافع التدخل لتغيير المشهد

ثلاثة أحداث دراماتيكية حفل بها المشهد السوري مؤخراً، يخلص هذا المقال إلى أنها في مجملها، بغض النظر عن خلفياتها وأهدافها ومدبريها، تصب في خانة تراجع قوة النظام، وتزايد مؤشرات ترنحه، والحاجة إلى تغيير قيادته.

فتوى "الجهاد"...صفريّة الحصيلة الفعلية...والغاية تبريرية

أول هذه الأحداث، فتوى "الجهاد" الصادرة عن مجلس الإفتاء الأعلى بسوريا، والتي تضمنت دعوة للالتحاق بالجيش النظامي باعتباره واجباً شرعياً، وتحريم قتاله، ودعوة جميع المسلمين للالتحاق بركب النظام للدفاع عن سوريا باعتباره أيضاً واجباً شرعياً، حسب فحوى بيان المجلس المذكور.

وتشكّل الفتوى الواردة آنفاً مفاجأة على صعيد منهجية العمل السياسي والأمني والإعلامي والعسكري للنظام السوري، فالأخير لطالما اعتز بعلمانيته، وقدّم نفسه على أنه حصن للمعتدلين وملاذ للأقليات، ولطالما عُرف عنه تهميش الدين في الشأن السياسي، وتحريم طقوسه في نشاطات المؤسسة العسكرية، إلى جانب ما يُشاع من أفعال، يقترب إلى حد التواتر، تتعلّق بإهانة المقدسات في أقبية المؤسسة الأمنية.

أما على صعيد أهدافها، فهي تبغي إحدى أمرين:

·         إما حشد شريحة المتدينين من السنّة في سوريا وراء النظام، وهي غاية لا تلبيها الفتوى بطبيعة الحال، بحكم الجدل في أوساط الغالبية السنيّة حول مدى صدقيّة علماء الدين المقربين من النظام، ومقدار موضوعية فتاواهم ومواقفهم الدينية والسياسية، الأمر الذي لا يمكن أن يغيّر من خارطة المواقف الراهنة في الشارع السوري، فكل سوري قد اتخذ موقفه، إما بالوقوف إلى جانب الحراك الثوري بالفعل أو على الأقل بالتعاطف، أو بالوقوف إلى جانب النظام بمثل ذلك، أو الوقوف على الحياد وإدانة الطرفين أو اعتزالهما، وهي مواقف لا يمكن للفتوى الأخير أن تغيّرها بل على العكس، هي تمثّل إحراجاً لأنصار النظام من خانة أن أحد نقاط دفاعهم الرئيسية عنه هي علمانيته ورعايته لمصالح الأقليات...التي لا نعرف ما موقعها من هذه الفتوى؟

·         أو خلق غطاء شرعي – قانوني لجلب مقاتلين من دول وخلفيات موالية للنظام، وبذلك لا تعدو الفتوى عملاً دعائياً، ومواربة تحمل الصبغة الشرعيّة لتبرير تحركات علنيّة لجماعات من بلدان الجوار تقاتل إلى جانب النظام، بحجة تلبية الفتوى الصادرة عن مجلس الإفتاء في سوريا.

أما حول نتائجها وتقييم موقعها في سياق تطور الأحداث في المشهد السوري، فهي لا تقدّم على أرض الواقع أكثر من تبرير لنشاطات قائمة فعلاً، أو في أبعد تقدير، ربما تزداد وتيرتها في المستقبل القريب، لكنها في الوقت نفسه تنبئ بضعف النظام، من منطلق تفسيرها على أنها مؤشر لعجز الأخير عن حشد وتعبئة الكم المطلوب من المقاتلين وراءه، واضطراره للاستعانة بعرب أو أجانب لإشباع الحاجة لديه، وهو أمرٌ يؤكد انخفاض مستويات شرعيته في الشارع السوري.

استخدام الكيميائي...مقتل النظام أياً كان الفاعل

ثاني هذه الأحداث، إعلان النظام عن تعرض منطقة خان العسل بريف حلب لأسلحة تضمنت مواد كيميائية، ومطالبته بفتح تحقيق دولي بهذا الخصوص. للوهلة الأولى يقرأ بعض المراقبين ذلك أنه إنجاز للنظام، فهو يعزّز مخاوف الغرب من وقوع أسلحة كيميائية سورية أو غير سورية في أيدي مقاتلين متطرفين في البلاد، الأمر الذي يهدد أمن إسرائيل مستقبلاً.

لكن تحليلاً أكثر عمقاً للأمر يستدعي تحذيرات الغرب، وخصوصاً الولايات المتحدة الأمريكية، من أن استخدام السلاح الكيميائي في سوريا خط أحمر، مما يعني أن استخدامه، أياً كانت الجهة الفاعلة، يعني خروج الأزمة عن نطاقها المضبوط الذي يمكن للغرب تقبله، وبالتالي تحول هذه الأزمة إلى تهديد مباشر لأمن ومصالح الغرب وحلفائه في المنطقة، والحصيلة ستكون البحث عن تسوية للأزمة بأية وسيلة، وتحول الأزمة السورية، لو ثبت استخدام الكيميائي، إلى أولوية على أجندة الولايات المتحدة الأمريكية، تسعى الأخيرة إلى إيجاد حلول لها بأسرع وقت.

ولما كان مصير الرئيس بشار الأسد أبرز معضلات الحل السلمي بين النظام والمعارضة، ولما كانت هذه القضية أعقد النقاط التي تعرقل أية مساعي للتسوية السياسية، فإن إخراج الأسد من المشهد السوري سيصبح أولوية غربية – أمريكية، بغية خلق تسوية سياسية سريعة بين النظام والمعارضة تضبط المشهد الميداني في البلاد بصورة تَحُول دون خروج الفوضى الراهنة عن الحدود المقبولة.

وفي حال الفشل في هكذا تسوية، فإن الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة، سيعجّل في وضع سيناريوهات أخرى للتدخل موضع التنفيذ، وعلى رأسها التدخل العسكري الناجع، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وهي سيناريوهات باتت في الأيام الأخيرة متداولة بكثرة في وسائل الإعلام الغربية.

إذاً، فاستخدام الكيميائي في المشهد السوري سيزيد من أولويته في أجندات الغرب، سواء كان النظام هو الفاعل، وفي هذه الحالة يفهم الغرب أن النظام خرج تماماً عن عِقاله وبات طرفاً غير مضبوط في المعادلة الإقليمية لا بد من إزالته أو تعديله بأسرع وقت، أو كانت مجموعات متطرفة هي الفاعلة وفي هذه الحالة يفهم الغرب أن عجز النظام عن حسم المشهد الميداني لصالحه بعد أكثر من سنتين بدأ يهدد أمن الدول المجاورة، وعلى رأسها إسرائيل بصورة مباشرة، مما يعني ضرورة تعجيل التدخل لحسم المشهد في أسرع وقت، وعبر الاستعانة بفصائل المعارضة المتعددة، ربما عبر دعم بعضها بالسلاح، للتخلص من النظام "العاجز" وإعادة ترتيب المشهد بصورة تضمن انضباط الحدث السوري ضمن حدوده.

اغتيال البوطي...حجر جديد في بِركة المتذمرين من إخفاقات النظام

أما آخر تلك الأحداث، فكان التفجير المُريع في جامع الإيمان بدمشق والذي راح ضحيته عدد من الأشخاص، أبرزهم الشيخ البوطي، الذي يمثّل اغتياله نقطة علّام في جانب حشد دعم شريحة المتدينين التقليديين للنظام.

وعلى اختلاف الروايات حول مشهد اغتياله والتساؤلات المحيطة به، فإن حصيلته، على عكس ما يظن الكثيرون، تمثّل ضرراً بالغاً للنظام.

ففي حال كان التفجير من تدبير النظام للتخلص من الرجل وفق ما يُشاع من مؤشرات لانقلاب مرتقب في موقفه، فإن تلك التسريبات سرعان ما ستتواتر بصورة ترجّح هذه القضية فتكشف عورة خطيرة من عورات النظام، وتجعل تصفيته وبالاً على النظام، وحشد المزيد من التعبئة ضده في الشارع المتديّن في سوريا.

وفي حال كان التفجير من تدبير النظام للتخلص من الرجل باعتباره بات "ورقة محروقة" لم تعد مجديّة بعد أن استُنزفت حتى النهاية، فكان التحرك للتخلص منه بغية استغلال موته بصورة مروّعة لإرسال رسالة للمتدينين المعتدلين خاصة من برجوازيات المدينة، وتحديداً دمشق، لحشد دعمهم، وتقليص تغلغل الحراك الثوري في أوساطهم وميل بعضهم المتزايد لصالح هذا الحراك، تمويلاً أو نشاطاً،...ففي هذه الحالة يبدو اللغط الذي أثير حول مشهد التفجير كفيلاً بخلق حالة من التوازن بين كفة القائلين بمسؤولية النظام وكفة القائلين بمسؤولية الثورة، مما يعني انعدام النتيجة، إن لم ترجح كفّة القائلين بمسؤولية النظام، فتجرّ نتيجة عسكيّة على مدبري التفجير.

أما في حال كان التفجير من تدبير جهات مرتبطة بالثورة، مُنظّمة أو فردية، فإن الرسالة التي يحملها هذا التفجير في هذه الحالة، مفادها فشل النظام في تأمين العاصمة دمشق، وفشله في تأمين أحد أبرز رجال الدين المواليين له، وتساؤلات حول مقدار الاختراق الأمني الذي حققه المناوئين للنظام في صفوف أعتى مؤسساته "الأمن"، مما سيزيد من تململ أنصار النظام، والمحايدين، من الفشل عقب الفشل، ومن الإخفاق عقب الإخفاق، ويزيد من الرغبة في تغيير المشهد، بدلاً من انتظار تدهوره المستمر بفعل إدارة النظام الفاشلة للأزمة الراهنة.

تغيير قيادة النظام...وسيلة الراغبين في ضبط المشهد

خلاصة التطورات الأخيرة لا تخدم النظام، بل تؤكد أن قناعة رأس الهرم فيه بأن القضية في سوريا قضية "صمود وإرادة" تزيد من تدهور المشهد، لغير صالحه، وترفع من وتائر الفوضى التي تثبت فشل إدارته، وضرورة تغييره، لأن تجارب السنتين الفائتتين دللت على أن الخط البياني للنظام في تراجع مستمر، ولو ببطء، وأن استمرار هذا التراجع البطيء، حصيلته المزيد من التدمير لبنية سوريا البشرية والمادية، والمزيد من التهديد للإقليم بأكمله بالفوضى وخروج المشهد من عِقاله بحيث يستحيل ضبطه لاحقاً، إذا فات الأوان.

ونتيجة القراءات السابقة، ستعجّل من تحرك الفاعلين، داخلياً وإقليمياً ودولياً، لتغيير المشهد السوري، ربما عبر تغيير النظام بأكمله في أقصى الحدود، أو تغيير الهرم الأول من قياداته، في أدنى الحدود....والله أعلم.