من جنيف 1 إلى جنيف2...حينما يكرّر الروس أنفسهم!

"بدأت الدبلوماسية الروسية تشعر بأنها قد وصلت إلى أبعد ما يمكن أن تفعله من خلال دبلوماسية الممانعة التي اعتمدتها لمنع حصول تدخّل غربي في سوريا، وبأنه لا يمكنها الاستمرار في هذه السياسة المتصلّبة وأن هناك إمكانًا لمواجهة خطر عزلة عربية ودولية...".

تلك كانت قراءة أحد المحللين العسكريين اللبنانيين في مجلة متخصصة قبل بضعة أشهر، وتحديداً، قبيل إطلاق شارة البدء لمسلسل "جنيف 2"، الذي أخرجه الأمريكيون والروس في توافقٍ أشعر العالم بأن أضواءً تلوح في نهاية نفق الأزمة السورية المُظلم.

لكن ذلك كان قبل معركة القصير تحديداً، فالأخيرة غيّرت الكثير من الحسابات، ويمكن الجزم بأن روسيا بالذات قد دخلت حيزاً زمنياً تستهلك فيه، مع مرور الوقت، إنجازاتها التكتيكية، خلال العامين المنصرمين من دعمها للأسد.

قصّة جنيف 1 وما بعده

في مؤتمر "جنيف 1" قبل أكثر من عام، أُتيحت للروس فرصة أن يحوّلوا النقاط التي سجّلوها لأنفسهم في الملف السوري، إلى مكاسب استراتيجية، وذلك عبر أن يكونوا شريكاً رئيسياً للغرب في ترتيب مستقبل سوريا، وكان الاتفاق المبدئي على مرحلة انتقالية بحكومة ذات صلاحيات كاملة تجمع بين النظام والمعارضة، لكن المشكلة بقيت يومها معلّقة على مصير بشار الأسد، تحديداً، وتَعنّتَ الروس متمسكين بالأسد، ففهمت واشنطن الرسالة، بأن موسكو غير مستعدة للضغط على حليفها السوري لتقديم تنازلات قاسية.

بعيد مؤتمر "جنيف 1" الذي انتهى في 30 حزيران 2012، حصلت تطورات ميدانية فارقة في المشهد السوري، إذ تقدمت المعارضة المسلحة إلى عمق العاصمة دمشق، واغتيل بعض أعضاء خلية إدارة الأزمة في النظام السوري، وتقدمت المعارضة المسلحة في حلب، وفي مناطق عديدة من الأرض السورية. ورغم نجاح النظام في استعادة مواقعه في العاصمة تحديداً إلا أنه خسر مواقع في شمال وشرق سوريا، ما يزال حتى اليوم عاجزاً عن استرجاعها، الأمر الذي خلق توازنات جديدة في المشهد الميداني السوري، وكان ذلك التطور لصالح المعارضة قد جاء بعد أشهر قليلة من الانتكاسة التي مُني بها المعارضون في بابا عمرو بحمص وفي ريف دمشق، والتي اعتبرها النظام يومها المؤشر الأول لبدء نهاية المعركة لصالحه.

جنيف 2...وموسكو تكرّر نفسها

لا يختلف المشهد اليوم كثيراً، ففرصة أخرى أُتيحت للروس كي يكونوا شركاء في رسم معالم مستقبل سوريا، عبر مشروع مؤتمر "جنيف 2"، بالتنسيق مع واشنطن، لكن ما حدث في معركة القصير، كما سبق وأشرنا، غيّر الحسابات، وأحرج الأمريكيين، ورفع من وتيرة ضغوط الحلفاء الإقليميين والدوليين على واشنطن لدعم المعارضة المسلحة، كي تتمكن من إعادة التوازن إلى المشهد الميداني.

الروس الذين أقرّوا تدخل حزب الله في القصير، ومنحوه التبريرات اللازمة، فشلوا مرة أخرى في التقاط فرصة جديدة لتحويل نقاطهم المسجّلة إلى مكاسب استراتيجية بعيدة المدى، ولم يُراعوا أن الحرج الذي طال حلفاء المعارضة، والتهديد الذي رسم معالمه، تدخل حزب الله في سوريا، في أذهان حكام الخليج، سيدفع إلى جولة جديدة من تعزيز قوة المعارضة، وبالتالي إلى تطورات ميدانية جديدة في آجال قريبة، لا نعرف كيف ستنتهي.

سقفُ ما يستطيعه الروس...وسقفُ ما يتحمله الغرب...في سوريا

يقرّ أيّ مراقب محايد، بما فيهم كبار المسؤولين الروس، أن سقف ما يمكن لموسكو أن تحققه في الملف السوري هو أن تكون شريكاً في رسم معالم سوريا المستقبل، مع الغرب. لكن الدفع  إلى جولة ميدانية جديدة، لا يمكن التخمين مسبقاً بنتائجها، ليس في صالح الروس.

لا يمكن لحلفاء المعارضة أن يقبلوا بنصر حاسم للنظام، وإن كان بعض هؤلاء الحلفاء يفضّلون الصيغة التوافقية التي تجمع النظام والمعارضة، وخاصة واشنطن، إلا أن إغلاق موسكو الأبواب أمام مناقشة سيناريو خروج بشار الأسد من المشهد، سيدفع الأمريكيين، مضطرين، إلى خيارات أخرى، بالتنسيق مع حلفائهم الأوروبيين والإقليميين، تستثني التفاهم مع موسكو، مما يعني أن الأخيرة ستخسر كل ما بذلته من جهود خلال السنتين الماضيتين كي تكون شريكاً في رسم معالم سوريا المستقبل.

حينما ييأس الغرب من موسكو

يعتقد الكثير من المراقبين أن أحد أبرز أهداف الكرملين من دعم الأسد، هو أن تحجز النخبة الروسية لبلدها موقع "لاعب دوليّ فاعل"، في كل الملفات الساخنة عالمياً، وأن تكون شريكاً للغرب في أية ترتيبات إقليمية في أي منطقة من العالم. لكن هذا الطموح يبدو في خطر، فالروس على أبواب خسارة ما جمعوه من نقاط لصالحهم في الملف السوري، في حال وصل الغرب إلى حالة اليأس من تحقيق تسوية سياسية مقبولة في سوريا، بالشراكة مع موسكو، وهو ما يبدو أن الغرب وصل إليه فعلاً، أو يكاد.

كيف تصنع روسيا الخصم الذي تخشاه؟

ومن زاوية مختلفة تماماً، يبدو أن الروس الذين لعبوا على وتر "فوبيا التطرف الإسلامي"، نجحوا حقاً في خلق حواضن وبيئات تتقبل هذا التطرف في سوريا، عبر مساعدة الأسد على الاستمرار في حربه، وبالتالي إطالة أمد الأزمة.

يعلم كل مختص مبتدئ في عالم التطرف والإرهاب، أن الأزمات الطويلة، والحروب الأهلية، من أبرز البيئات المناسبة لخلق التطرف وتنميته. وفي حين كان يمكن للروس أن يشكلوا الجناح الثاني مع الغرب، في التأسيس لاستقرار محدد المعالم في سوريا، يكون الأسد خارجه، لم تستغل موسكو الفرصة وبقيت متمسكة بالرجل، فأطالت أمد الأزمة، وعزّزت من فرص نمو التطرف والإرهاب الذي حذّرت منه مراراً.

الروس اليوم يقرّون بأن الجماعات الجهادية الإسلامية في سوريا تنسّق مع نظيراتها في الشيشان، وبعيداً عن التحليلات التي تقول بأن هذا الحديث مجرد بروباغندا ترتبها روسيا بالتنسيق مع النظام، لتعزيز فوبيا الخوف من التطرف الإسلامي لدى الغرب، والإمعان في الضرب على الوتر الحساس الذي يجعل العالم الغربي يحجم عن دعم المعارضة المسلحة، يبدو أن الروس – لو صح ما يُشاع عن نشاطات لشيشان وجهاديين آخرين من آسيا الوسطى- نجحت بالفعل في صناعة الخصم الذي تخشاه، فهي هيأت البيئة المناسبة لاحتضانه وتنميته، عبر دعم الأسد في إطالة أمد الأزمة السورية، بدلاً من القيام بخطوات جديّة في الضغط على حليفها لتقديم تنازلات قاسيّة تؤهل للحل السياسي، الذي يمكن أن يضمن الاستقرار، وبالتالي تطويق التطرف والنشاطات الإرهابية المتنامية على الساحة السورية.

موسكو تقول للغرب..."جدوا الحل للأزمة بمعزلٍ عنّي"

بطبيعة الحال، سنسمع أصواتاً تقول بأن حلفاء المعارضة هم أيضاً متورطين في تنمية التطرف وتعزيز البيئة الحاضنة له عبر دعمهم للمعارضة المسلحة، إلا أن ذلك لا ينفي أن موسكو كانت قادرة على إطفاء لهيب الأزمة السورية منذ أكثر من سنة، عبر الضغط على بشار الأسد للخروج من المشهد، وتنفيذ ترتيبات سياسية وأمنية تتيح لتسوية سياسية بين النظام والمعارضة، وهو ما لا ينفي أيضاً أن موسكو تُعيد الكرّة اليوم، وكأنها تقول للغرب بلسان فصيح: "جدوا الحل للأزمة بمعزلٍ عني".

ماذا لو...

ماذا لو نجح الغرب في الوصول إلى إسقاط النظام، بالتنسيق مع حلفائه الإقليميين؟

سيكون ذلك بالطبع خسارة استراتيجية مدويّة لروسيا في المنطقة، وعلى مستوى هيبتها ومكانتها الدولية أيضاً.

لكن ماذا لو نجحت روسيا في أن تكون شريكاً للغرب في ترتيب مستقبل سوريا؟

سيكون ذلك بالطبع نصراً استراتيجياً للروس، يحافظون من خلاله على موطئ قدمهم في سوريا، ويعزّزون فرصهم لأن يكونوا شريكاً دولياً للغرب في إدارة الملفات الساخنة الأخرى في العالم، بما يخدم مصالحهم الحيوية.

بكل الأحوال، يبدو أن الأشهر القليلة القادمة، بل ربما، الأسابيع القادمة، حُبلى بالتطورات، خاصة الميدانية منها، في المشهد السوري، ويبدو أن الحيز الزمني المتاح للروس كي يحوّلوا مرابحهم المؤقتة في سوريا إلى مكاسب استراتيجية، يضيق أكثر فأكثر.