لم يكن بخاف على أحد مقدار الاستحواذ والأسر والهيمنة الذي اتبعه وما زال يتبعه النظام  لمؤسسات الدولة من حيث تشكيلها واستئثار مواقع القرار والسيادة فيها رهناً لتوجهاته وتصوراته التي تخدم وجوده وتقوي مصالحه، هذا كان، وما زال، من أهم عوامل الثورة التي هيأت الظروف والأحوال لقيام الثورة ضده.

حيث يلاحظ أن لا خدمات قدمت ولا حيادية تركت حتى للشأن الخدمي إبان الثورة السورية حتى يكون مفصولاً عن شأن السيطرة الكاملة للجهاز الأمني العنيف وارتهان المستفيدين منه للنظام  بشكل كامل وإلا فإن المصير يكون الإهمال والنكران.

وأما الحديث عن سيادية القرار السوري الداخلي فقد برهنت الأحداث المتلاحقة مقدار خلو هذا الادعاء من الصحة.

أول ما أنهك الدولة السورية وجعلها رهينة القرار الخارجي هو النظام السوري الذي يدرك بخبث لعبة التوازنات الدولية وكيفية إدارة الخطاب الإعلامي على الصعيد الدولي فيبدو من خلال الثورة السورية وزيري الخارجية الروسي والإيراني ناطقين رسميين عن الدولة السورية وهذا انتهاك فاضح لمن يدعي دوام احتفاظ حقه بالحديث عن السيادة الوطنية بعد أن قام بتسليمها للخارج وقام بسحق مطالب الحق الوطني المطالب بالتغيير بالمدفع والصواريخ والضربات الجوية الإجرامية، حتى أنه وبحسب اطلاعي وما تناقلته وكالات الانباء وشخصيات سياسية لم يوفر حتى الكيماوي.

لقد سلم النظام الدولة السورية لتكون مسرحاً دولياً تمارس فيه كافة أشكال تصفية الحسابات وتمكين المصالح الاقليمية بل وحتى الدينية والاثنية على حساب استمرار جريان دم الشعب السوري وتمزيق ما تبق من وحدة الصف في مجتمعه ناهيك عن فقدان سيادية القرار السوري الداخلي في حل مشاكله ونزاعاته وهذا دفع طائفة من المعارضة الخارجية كي تستقوي بمن يتعاطف مع مطالبها بالتغيير وهذا في حد ذاته جعل من الثورة السورية في حالة من التشتيت بين المصالح الوطنية الداخلية الصرفة وبين مصالح تلك الدول الداعمة للتغير.

إن خطف النظام أجهزة ومؤسسات الدولة السورية فهذا لا يعطينا الحق كثوار أن نكرر ذات الخطأ ونقوم بتطويع وإنشاء كيانات أو هيكليات وفق أهوائنا أو مصالحنا الانتفاعية المؤقتة أو وفقاً لانفعالاتنا الآنية أو حتى وفقاً لقناعاتنا الدينية أو الفكرية.

بل يكون هذا طوعاً ورهناً لتشارك السوريين كل السوريين الذين لم تتلوث أيديهم بالدم السوري الحرام في صناعة القرار والمصير للشكل القادم لمستقبل سوريا الغد.

إن أردنا الحيادية فإن المجتمع السوري المنقسم بين المؤيد والثائر يتشاركان ويتقاطعان في كثير من الأخطاء والأمراض الاجتماعية والفكرية والذهنية كثير منها نتج عن عملية تجهيل ممنهجة قام بها النظام على فترة خمسة عقود من الزمان.

فمن جهة نجد أن غالبية المؤيدين ما زالوا في حالة نكران لأمراضهم بسبب عدم مقدرتهم على تحمل تبعات اتخاذ موقف يدين الخطأ والجريمة الممارسة من قبل النظام وذلك بسبب انعدام مقدرتهم الأخلاقية على تحمل تبعات تحمل اتخاذ موقف يدين سفك الدم السوري بشكله (الرسمي) والحكومي حيث سيكون البسطار العسكري والترهيب والتضييق ثمناً باهظ التكاليف.

بينما بعض الثوار والمعارضين يؤمنون أنهم تخلصوا من كل أمراضهم بمجرد انخراطهم في الثورة في خطوة انتكاسية لها تبعات خطيرة على الثورة السورية من حيث النتائج والمقاصد، حيث تقول الوقائع أن نسبة تتزايد منهم يتعارضون مع النظام شكلاً ولكنهم يكررون ذات أخطاءه ضمناً وهذا أبعد ما يكون عن مقصد الثورة الطامح للتغيير بمستقبل يتعلم فيه السوريون من الأخطاء التي دفع ثمنها عشرات الألوف من الشهداء والجرحى وبلداً مثخناً بالتحديات والمواجهات بدلاً عن تكرارها. على الثوار أن يدركوا أن الثورة ليست مطهراً يخلصهم من درن الذنوب والخطايا.

أكثر ما يدعو للقلق، من جانب الثوار، أن الثورة السورية، ثورة الكرامة، قد أعطت البعض شعوراً كاذباً بالانتفاخ والغرور والغلو فأصبح الثوري يدعي ملائمته لجلّ المناصب والمواقع، وكنت قد أشرت في مقال منذ عدة أشهر أن استفحال داء الانتفاخ الثوري هو وبال على الثورة وخطر عظيم على مقصدها بالتغيير. يلاحظ أن هذا الداء عظّم في ذات قاصدي المناصب حب السلطة والسيطرة ما أنتج حالة أشبه ما تكون بالحمل الكاذب لن تجلب التغيير المنشود كمقصد اساس للثورة في خلق كيانات بشرية مشبعة بالشهامة والنبالة والأخلاق الفاضلة وتعاظم حس الغيرية وكبح للغرور وشهوة القوة تؤمن بالمؤسساتية كوسيلة تنظيمية مفعمة بالانضباط والتنظيم.

بتنا نشهد في المرحلة الراهنة الانتقالية والإسعافية حصول اختلاطات يتخللها مضاعفات غير محمودة العواقب فعلى سبيل المثال نجد أن من يحصل على دورة تمريض إسعافيه، تحت وطأة تخاذل وتنصل كثير من الأطباء عن أداء مسؤوليتهم الأخلاقية والشرعية، يحصل تضخم في ذاته فيحسب نفسه طبيباً جراحاً، فنجده يتقمص الدور ويتصرف على هذا الأساس. وهذا قياس وتداخل خطر في توزيع الأدوار في الجانب الثائر من المناطق التي تخلصت بفضل دفاعها عن ذاتها من سيطرة النظام المجرم.

وكذا نجد الأمر في شخص بات في ظرف تقهقر وخوف وسائل الإعلام المحلية عن نقل الواقع والحقيقة أشبه بناقل للحدث فتتضخم ذاته إعلامياً فيشطح بالتحليل ليخلط الحابل بالنابل حسب قناعاته الذاتية خصيصاً مع غياب البديل الذي يقبل أن يعيش بذات الظرف الخطر الذي يعيشه شاهد العيان ذاك.

أما عن حصر المسؤوليات والمسميات لشخصيات محددة فهذا يذكر المتابع بألقاب الرائد الركن والمهندس والمظلي والفارس وكأن الرحم السوري الخصب أجدب فلم يعد فيه سوى شخصيات محددة تتبادل (المناصب) وهذا عين ما ثار عليه الشعب السوري حتى وان اختلفت المسميات والظروف والاتجاهات لكن تكرار الخطأ يجعل الثوار كأنهم لم يغادروا دائرة عبثية تكرار المشهد الذي أوصل لما وصلنا اليه من مستنقع دماء يغوص بموجبه السوريين.

أكثر ما خطف الدولة السورية ومؤسساتها إبان الثورة السورية المباركة كان توظيف المال السياسي الخارجي وفق مصالح وقناعات وحسابات وإملاءات الدول المانحة.

بقليل من التمحيص نستطيع أن نتلمس تصارع الدول المانحة من حيث تجفيف المصادر أو تكثيف مواردها حسب اللعبة السياسية التي تتم في الخفاء وتحت الطاولة في المنظمات الدولية.

لقد وقع الثوار عرضة لامتداد صراع إقليمي من جهتين تتفقان معه على اسقاط النظام بعد أن كانتا حليفاً قوياً له حتى الأشهر الأولى من عمر ثورة الكرامة هما السعودية وقطر ولكن تعارض مصالحهما الإقليمية ومحاولات مد النفوذ الخارجي جعل من الدعم ينكفأ أو يرتفع حسب العلاقة الناظمة بين هاتين الدولتين وهذا أسفر سلباً على عملية ما أطلق عليه تحرير البلاد من "الاحتلال الأسدي" حسب عقلية المانح.

أحد الخاطفين الأساسيين كان الجمعيات الاغاثية والفوضى التي أتبعت حالة التهجير التي فرضها قصف النظام العشوائي على المناطق الآهلة بالسكان ما سمح للجمعيات الإغاثية أن تعتبر من نفسها بديلاً عن مؤسسات الدولة الوليدة في عهد الثورة التي نتجت بعيد انتخابات المجالس المحلية والمحافظات في المناطق المحررة والمنكوبة وهذا أدى لحالة من الفوضى العارمة في إزكاء روح المبادرات الفردية وعدم وجود أفق عام تسير بموجبه رعاية العملية الاغاثية فلوحظت حالات من تسيس العمل الإغاثي وفق أجندات مغلفة بعبارات الانسانية والدعم للشعب السوري المنكوب والتي قد تظهر ملامحها في القريب العاجل إذ لو كان هناك جهة إغاثية تريد وحدة الصف السوري لوظفت جهودها وصبت مواردها ضمن أتون مؤسسات الثورة السورية التي تأخذ مصادرها بناء على المساعدات الإنسانية الخارجية بعد أن احتجز النظام المجرم موارد الدولة وإرادتها وهذا كان ليسمح بتوزيع الموارد بشكل أكثر تنظيماً.

لقد صبغ تدخّل المنظمات الخارجية الاغاثية الناشطين الثوريين بنوع من الأنانية والحس الخادع بالاستقلالية في كل القطاعات التي تلوثت بلوثة فوضى الجمعيات الإغاثية فترى من حيث التدقيق فتوراً عن الخضوع للمؤسسة الأم في ظل تحقيق الاستقلال المادي والاكتفاء الذاتي وهذه الحالة تعزز حالة اللادولة واللامؤسسات والتشرذم في المرحلة الراهنة ما يشكل تأزيماً لروح الجماعة والفريق وينذر بتأخير ترسيخ مفهوم مؤسسات الدولة المرتجاة في المستقبل القادم لسوريا الحرة.

لا يمكن نسيان الأفراد والجماعات التي كانت في فترة سابقة أحد الأحذية التي ينتعلها النظام ويقوم بالدعس عبرها على كل من تسول له نفسه بأن يرفع رأسه ضد النظام، هذه الشريحة أكثر ما يعرف أساليب النظام وهم مقتنصي فرص متخصصون بتطويع كل الظروف المحيطة كي تصب في مصالحهم، يعرفون متى وكيف تؤكل الكتف ومتى يستقلون القطار ومتى ينزلون من على متنه ولم يكن غريباً أن نجد كثيراً منهم قد ركبوا قطار الثورة وانتفعوا منها بأقصى الحدود وقطعاً لا يمكن لهم أن يتنازلوا بسهولة عن مكاسبهم التي لا تمت للثورة وأهدافها بصلة.

هذه الشريحة يستوجب استئصالها بالسرعة الممكنة والا انتشرت بشكل خبيث لا يمكن السيطرة عليه في مرحلة لاحقة. يلاحظ في هذه الشريحة تشابهاً شبه متطابق من حيث استخدام الأساليب القذرة لتمرير ما تراه يخدم مصالحها حتى وإن كان غير أخلاقياً.

  يتقاطع مع هذه الشريحة من حيث نيل بعض المكاسب مواطنين بسطاء أصبحوا بموجب حمل السلاح، للدفاع عن أعراضهم واراضيهم وممتلكاتهم، أمراء حرب.

يمكن التعامل مع هذه الفئة بطريقة أقل حدة عبر ترسيخ مفهوم الوعي الديني والاجتماعي ورفعهما من حيث وجوب وضع الشخص المناسب في المكان المناسب كي تدور عجلة إعادة بناء سوريا المستقبل. والتشديد على أن مرحلة استعادة وترميم الدولة السورية وأجهزتها ستكون أكثر فاعلية ونجاحاً فيما لو مارسنا كثوار أعلى مستويات ضبط الانفعال وتركنا التخطيط كي يمارسه أهل الاختصاص والتكنوقراط مع نسبية معقولة من الدماء الثورية التي لم تتلطخ بصفات النظام الجلاد والقاتل.

يضاف في من خطف الدولة السورية، بشكل نسبي، حداثة عهد الثوار، بتسيير الشؤون الإدارية وممارسة العمل المؤسساتي كنتاج انتخابي بني على أساس الخلفية الثورية للمسيرين للعملية الخدمية، لا على أساس تفضيل المناصب حسب التكنوقراط الذي يرتجى منه بناء الدولة السورية القادمة وكان واضحاً أن هذا الخيار خيار مؤقت بعد أن علم نسبة من الثوار خطورة إدارة شؤون الدولة بدون خبرة كافية في ظل ظروف صعبة ومعقدة للغاية وتغيب عنها كثير من مقومات العمل المؤسساتي.

في الختام، لا يمكن التفاوض طبعاً مع اصل المشكلة والذي أوصل اليها ولكن يمكن أن نطلب من الثوار أن يعيدوا حساباتهم قبل أن تتعقد الأوضاع بشكل لا يمكن عكسه ولكن وبشكل جوهري يجب التشديد على بناء الذات وتطهير النفس الثائرة من علل الانتفاخ والنرجسية مع زراعة مستدامة لإيقاظ حس الوعي والمسؤولية وتحفيز على استعادة دور المؤسسات في حياتنا اليومية فالبلاد مقبلة على أحوال كارثية تفوق بمراحل الدمار الذي ألحقه النظام بالأهل وبالديار، فالهدم هنا ذاتي التفعيل يقوض أسس ما قامت عليه ثورة الكرامة الطامحة للتغيير.