لاشك أنّ على المنفذين لأي عمل أو مشروع , وضع خطة تتضمن مسببات القيام به وأهدافه , ثم اختيار أداوت التنفيذ , ورسم مخطط للعقبات والمآزق والمنزلقات المتوقعة التي تهدد بالإجهاز على المشروع برمّته وإفشاله .

إن محاولة توقع المطبّات المفاجئة تساعد على منع انحراف مسار العمل بكليته وهي ضرورة لخشية الوقوع في أي تبديل للمسار المعمول عليه بحيث أنه يعمل كبوصلة دقيقة تعيدنا إلى المسار المخطط له بعد كل مناورة ننفذها .
بعد مضي أكثر من عامين على بدء الثورة ومشاهدة التدمير الكارثي الذي أتى على مؤسسات الدولة من قصفٍ وتهشيم وحرق وسلب ونهب علينا أن نعرّف الدولة و نبحث بشكل جدي عن مسببات هذا الدمار لا لتبريره بل لمعرفة المسؤولين عنه تمهيداً لمحاسبتهم كما علينا أن نبحث عن آليات جدية لإيقاف عملية التدمير الممنهج لمؤسسات الدولة الذي بدأه النظام منذ عقود من الزمن .

إن الدولة هي الأرض والشعب والحكومة الممثلة بمؤسسات أنشئت لخدمة الشعب الذي تربطه بها علاقات متبادلة من الاحترام والحماية والرعاية والمحاسبة, وليست علاقة هيمنة وإخضاع وتسلط أحادي الجانب , والشعب " بكل فئاته " هو المكون الرئيسي لمؤسسات الدولة , يختلف تموضع أفراده في مفاصلها حسب كفاءاتهم , ويتساوون فيما بينهم من حيث الرعاية والخدمات المقدمة لهم منها , وتكون قيمة الدولة عند الشعب بقدر القيمة التي تمنحها هذه الدولة لأفرادها .

من هذا التعريف البسيط نستطيع أن نكتشف أول الجرائم التي ارتكبها النظام بحق الدولة , بنخره لعقود من الزمن أساسات هذه الدولة وتفخيخها وتهيئتها للتدمير والسقوط لحظة يطلق فيها النظام الذي يجيد تماما اللعب على حافة الهاوية , شعار " الأسد أو نحرق البلد " رداً على ثورة شعب متوقعة طال أمد وجودها تحت الجمر.

فكان أن أطلق العنان لأجهزته الامنية وأوعز لها باختطاف مؤسسات الوطن , فجعلها طوعاً لقراراته تتحكم بتعيين الموظفين والعاملين بها من قاعدة الهرم الوظيفي حتى قمته تحت الشعار غير المعلن " الولاء قبل الأداء ". ما أدى بالضرورة إلى انحطاط أداء مؤسسات الدولة كنتيجة حتمية لخلو هذه المؤسسات من الخبرات والكفاءات ولتعاظم غول " التقارير والوشايات" الذي وجد للنيل من الموظفين الشرفاء بذرائع أمنية يزج بهم في المعتقلات لعقود من الزمن , أو يصرفهم من الخدمة لأسباب تمس النزاهة في أقصى حالات المحاسبة.

ثم قام النظام عبر أجهزته الأمنية بسرقة المشاريع الخدمية والاستثمارية لصالح محدثي النعم المرتبطين أمنياً معه, أو أولئك المرتبطين معه عائلياً أو مصلحياً وسعى لحماية الفاسدين واللصوص الذين أوغلوا في سرقة مال الشعب العام عن طريق الأحكام العرفية التي عطّلت كل قوانين المساءلة والمحاسبة التي كان ينبغي أن تطال أولئك المتجاوزين .

وككل مستبد مكّن الفئات الموالية له من الإمساك بأهم مفاصل هذه المؤسسات والهيمنة على باقي فئات الشعب السوري , واتبع معها سياسية التهجير لـ ( تطفيش ) من يظن أنهم بدائل عنه قد يزاحموه على الحكم , وتحولت سورية إلى حكرٍ للفئات المستأثرة بخيراتها و مقرٍ للشباب للعاطلين عن العمل والمتقاعدين .

وكان يكفي التجول في أي مدينة سورية كي يحس المرء بمدى التوتر الكامن بين كتل الشباب المتكدسة في تلك الساحات والشوارع ولا عمل لها سوى الاستناد إلى الحائط و تكتيف الذراعين والاكتفاء بالنظر إلى مشهد المدينة ومحظييها ليحس المرء أنه يكفي عود ثقاب كي تنفجر هذه الكتل الشبابية كبرميل بارود في أعمال عنف تكتسح الساحات والشوارع ولا توفر المكان ولا الأشياء ثم يأتي النظام ليتكلم عن مؤامرة كونية تستهدفه !!.

والحقيقة أن هؤلاء هم كما سماهم د . مصطفى حجازي في كتابه الإنسان المهدور ( جحافل المستغنى عنهم ) كانوا في ازدياد , وانهيار انسانيتهم في تفاقم مستمر نتيجة لعمليات النهب المنظمة للثروات محليا ودوليا ومع هذه وفوقه تعبر القلة المحظية عن خوفها الذي تحول إلى رهاب حقيقي من تهديد جحافل ما دون خط الفقر لأمنها واستقرارها وتتضخم لحمايتها أجهزة الأمن تتعقد اجراءاتها وكلفتها بذريعة حماية امن الوطن . فشعرت فئة ( المستغنى عنهم ) بلا وعي بأنهم مجرد مستأجرين في وطنهم ودولتهم التي اختطفتها هذه الفئات المحظية لدى النظام بحماية الأجهزة الأمنية , مما ولّد إحساساً لا إدراكياً بحالة اللا نتماء ترجمت إلى علاقة عدائية بين هذه الفئات ومؤسسات الدولة . كانت قد بدأت بالظهور قبل الثورة على شكل أعمال تخريبية لمؤسسات الدولة والممتلكات العامة في المناطق التي تتراخى فيها القبضة الأمنية البطّاشة. والمتتبع للأخبار يستطيع تذكر حوادث كثيرة منها قذف القطارات بالحجارة على طرق السفر بين المحافظات حيث لا رقيب ولا حسيب.

لأنه من المعلوم أن من هدر كيانه على هذا الغرار مهيئاً لهدر كيان كل ما حوله من عمران ومن استبيحت إنسانيته سوف يستبيح كل شيء حين تتاح له الفرص, كل شيء يصبح فاقد للقيمة والحصانة حين يفقد الإنسان قيمته وحصانته .

أما بعد بدء الثورة و ازدياد ترهل وتراخي القبضة الأمنية فقد اتخذت العلاقة العدائية شكلاً أكثر عنفاً في تدمير مؤسسات الدولة التي لم يرَ المواطن السوري منها إلا الظلم والتمييز والهدر والتمييز لكرامته وإنسانيته خصوصاً أن جل الأعمال الواعية متفرعة من جوهر لا واعي .

وغذى النظام عبثه بلا وعي هذه الفئة بعد أن تعمد اعتقال الناشطين السلميين الأوائل وأطال في أمد توقيفهم أو تصفيتهم داخل المعتقلات لإتاحة الفرصة عن طريق بطشه وإجرامه الذي رآه وعاينه واكتوى بناره كل المعارضين له , ما دفع الثورة دفعاً باتجاه العسكرة دون استعداد ودون وجود قيادات واعية تمتلك شعوراً عال بالمسؤولية لأن النظام المستبد لم يسمح بإنشاء أحزاب أو جمعيات أو منظمات مدنية إن لم تكن دائرة في فلكه تسبح بمجده , ولاحق وقمع وقتل كل من يفكر بأن يكون مختلفاً عنه , فافتقد الثوار إلى القدوة التي كان من شأنها إن وجدت أن تلعب دور الواعية الناصحة , تتصدى لكل إرادة للنظام بالتلاعب بمسار الثورة .

فكانت الثورة " شعبية " دفعت للعسكرة دون قيادة , تمتلك قدراً عالياً واستثنائياً من البطولة , تشابه السيل بقوته الجارفة العنيفة تتصف بردة فعل حرجة تسيّرها مؤثرات خارجية عاطفية ( يعبث بها النظام ) , لا تخضع للمحاكمات العقلية , و لا تشعر بالمسؤولية لغياب أو تعطيل قانون تتفق عليه الجماهير بمكوناتها المختلفة المشارب الفكرية والأيديولوجية , يقوم بآلية الرقابة والحساب .

كما أدت العسكرة إلى نشوء ثوار على قدر عال من الشجاعة من جهة ومن المسؤولية من جهة أخرى , لكنها أدت أيضاً " كما أراد النظام " إلى فوضى سلاح خلقت ثواراً يفتقدون للتثقيف الكافي والانتماء السياسي في بعض الأحيان وعدم تحليهم بحس عال بالمسؤولية يدفعهم باتجاه الحفاظ على مؤسسات الدولة وملاحقة من يقومون بأعمال التخريب ضد المنشآت الحكومية . وفي بعض الأحيان شعر بعض هؤلاء الثوار بالجبروت والاستثناء في تصرفاتهم فصار في عرفهم كل شيء مسموحاً ومتاحاً حتى لو تقمصوا شخصية المستبد نفسه , لأن أي إنسان شعبي متمرد " منفرد " حين تتاح له فرصة ممارسة السلطة على آخرين لا يجد مرجعية أخرى لهذه الممارسة سوى ممارسات" المستبد " لأنه المثال الأوحد الذي عايشه وإن كان قد تمرد عليه .

فقد يكون بعض الثوار تمردوا على أمراضهم التي كان النظام مسؤولاً مباشراً عنها لكنهم اعتقدوا بنفس الوقت أنهم تعافوا منها بمجرد رفضهم الخضوع له , بل أخذ بعض منهم بعداً أكثر خطورة وهو " ثورنة " هذه الأمراض وقولبتها لتبدوا كمبادئٍ ثورية , فبقي شيءٌ من الاستبداد في إدارة المؤسسات التي حرروها وجعلوها تخضع مرة أخرى لعصبياتهم المناطقية أو العائلية أو " الكتائبية " أو الثورية . ناسين أن الثورة لكل السوريين وليست فقط للثوريين منهم.

فقلدوا الرئيس المستبد بلا وعي في اختطافهم لمؤسسات الدولة أو تدميرها حسب ما تقتضيه الضرورات العسكرية حسب رأيهم , خصوصا أن النظام استخدم الكثير من مباني الدولة لأعماله العسكرية فكانت منصّات لإجرامه ينثر من خلالها الموت عبر مدفعيته وهاوناته , وقناصته الذين احترفوا استهداف المدنيين على مشهد ومرأى العالم " المتحضر " الذي وقف متفرجاً مندداً في بعض الأحيان ومساوياً بين الضحية والجلاد في كثير منها .وعلى مشهد ومرأى الثوار العاجزين أمام بطشه عن حمايتهم قبل أن يتمكنوا من تحرير هذه المؤسسات , وبعد تحريرها كانوا عاجزين مرة أخرى عن إيقاف ردة الفعل الانتقامية من أهالي من استخدمت أبنية هذه المؤسسات في قتلهم قنصاً وقصفاً وتصفية على أيادي " الشبيحة "بداخلها .

ومع طفو من أستطيع بوصفهم بـ " شبيحة الثورة " على السطح , واولئك إما ثوار يفتقدون الكثير من الوعي لا يتقنون إلا عمل التحريض على ركائز الثورة كمؤسسات الدولة أو أنهم العملاء والمخربون ممن يمتلكون مقومات القيادة , الذين زرعهم النظام في صفوف الجيش الحر ومدهم بالعتاد والسلاح فلعبوا دوراً كبيراً في الإساءات للثورة ومن هذه الإساءات تخريب مؤسسات الدولة وتدميرها تنفيذاً لتهديد النظام المستمر بإحراق البلد .

أخيراً , كما حملنا " بعض الثوار " مسؤولية ما حدث من تدمير لمؤسسات الدولة ولكن من الإجحاف أن نغفل أمرين

الأول : أن النظام هو صاحب الباع الطويل في تدمير مؤسسات الدولة عن طريق سياسة الأرض المحروقة بالقصف بالمدفعية والهاونات وطائرات الميغ والبراميل المتفجرة وصواريخ السكود.

الثاني : أن الثوار المسؤولين عن تدمير بعض مؤسسات الدولة هم أقلية بين ثوار يمتلكون الكثير من الوعي والفكر والمسؤولية والشرف .

فقد استطاعوا التعامل مع مشاكل لم يستطع أو لم يرد النظام حلها لعقود من الزمن , رغم الظروف القاهرة التي تخضع لها المناطق المحررة كمشكلة تشغيل الأفران وتوزيع الخبز للمواطنين دون النيل من كرامتهم وافتعال الشجار بين جموعهم على أبواب هذه الأفران " كما يفعل النظام في مناطق سيطرته حتى اليوم "

وقام الثوار بالحفاظ على نظافة شوارع المناطق المحررة بعد أن عجز النظام لعقود من الزمن عن القيام بذلك .

وحفظوا الأمن بشكل كبير نسبياً ولم يتأخروا عن الإنطلاق بناء على شكوى مواطن دون أن يتعالوا عليه للقبض على لص أو فض شجار ودون أن يطلبوا من هذا المواطن " ثمن بنزين السيارات " وإكراميات للعناصر كما كان ولا زال يفعل النظام في مناطق سيطرته .

ونجحوا في تشغيل مواصلات النقل الداخلي دون إرهاق مادي للمواطن , كما نجحوا في تأمين الخدمات للمواطنين " ما أمكنهم ذلك " دون رشاوى أو حتى أجر وبعيدا عن المحسوبيات .

ونجحوا أخيراً في حماية المراكز الامتحانية في امتحانات الشهادة الثانوية الأخيرة.

اذا .. تكمن المشكلة في بقاء الثوار في روح الجماهير دون قيادة واحدة تدفعهم إلى إعمال المحاكمة العقلية و التفكير والتخطيط قبل كل عمل يقومون به , وتوقف قدرة النظام على التأثير عليهم عن طريق مؤثرات يتحكم بها بدقة ليحول شجاعتهم وقوتهم إلى مجرد ردود أفعال يجرفها إلى الإحداثيات التي يريد عن طريق مؤثرات خارجية كمقاطع الفيديو المسربة " على سبيل المثال " .

كما من شأنها بعد إعمال المحاكمة العقلية دفع الثوار إلى التمييز بين الدولة والنظام واعتبار النظام محتل غاشم " لمؤسساتنا " علينا التخلص منه دون تدميرها , والإشراف على إدارتها بأنفسنا و" تكليف " العمل فيها إلى الأكفأ الأكثر نزاهة .

الابتعاد عن ردود الفعل وإعمال التفكير يجعلنا نعود إلى حيث بدأنا لتعريف عدونا وما فعله من جرائم بحق مؤسساتنا قبل بدء الثورة وما علينا فعله لإعادتها إلى المستوى الذي نتمناه لا إلى المستوى الذي كانت عليها لحظة بدء الثورة, ومقياس نجاح هذه المؤسسات لا يكون بـ " من يديرها " بل يكون بـ " كيف تدار هذه المؤسسات " .

إن مؤسسات الدولة السورية باقية والنظام راحل والوطن سيعود ليضم كل من لم تتلطخ يداه بالدماء من ابناءه فهل سنكون على مستوى من المسؤولية بأن نكف بالحديث عن أن النظام هو من أورثنا هذه الحالة من الانفعال والاعتداء على مؤسسات الدولة بزعم أنها غنيمة؟

وهل سنعترف أننا نمتلك في هذه اللحظات التاريخية المقدرة على تخطي مورثات النظام ضمن الثورة التي أعطتنا الكثير الكثير من نعمة الاختلاف عن النظام في رسم مستقبل نريده يضج بالحيوية والنشاط والتشاركية في بناء مؤسسات الأوطان؟

* ناشط سوري