كثيراً نسمع في الأيام الأخيرة عن شكل الدول بعد الثورات العربية، إذ البعض يريدها دولة علمانية والبعض الأخر يريدها خلافة إسلامية، وما يثير الشفقة في بعض الحالات أن كلا الفريقين متعصب لفكرة معينه من دون أن يعي تماماً ما يبطن من معنى في كلتا الفكرتين،

فالأول يظن أن العلمانية هي فصل الدين عن السلطة السياسية دون أجبار أحد على اعتناق وتبني معتقد أو دين، وهذا حق مشروع إذا لم تكن غايته الأساسية المحاربة والإساءة للدين (أي دين الإسلامي أو غيره) . والثاني يريد أن يقيم شرع الله في الأرض ويعيد أيام انتصارات المسلمين وعزتهم وكسب الدنيا والأخرى، وهذا أيضاً حق مشروع إن لم تكن غايته أعادة الناس لأيام الإبل، ومحاربة كل أشكال التطور والحضارة، وإكراه الناس على أتباع الدين. ولكن السؤال الذي بتبادر إلى الأذهان أي الخيارين أنسب؟

مؤخراً بدأت أسئل أحد المطالبين بالخلافة الإسلامية ما هي الخلافة التي تريد، فكان جوابه بشكل سريع وكأنه يعرف سؤالي \"نريد أن نعيد أيام الأمويين والعباسيين\". تعجبت كثيراً من طريقة جوابه السريعة والمختصرة والتي قد لا تكون بالإسلام من شيء إذ كل ما يعرفه أن هذين العصرين هما أهم عصور الازدهار للأمة العربية والإسلامية ولا يعي غير ذلك. سألته هل تعلم أن أمير المؤمنين بكلا الدولتين كان يرث البلاد والعباد ميراثاً، حتى لو لم يكن كفئ لذلك؟ هل تعلم أن بداية نشأة الدولة العباسية كانت ثورة على الدولة الأموية لما شاع من ظلم وسفك للدماء في ذلك العصر؟. فعبس قليلاً ثم نظر وقال إذا نريدها كما أمر الرسول شورى بيننا. فكان جوابي له \"هذا كلام حق ولكن قد يراد به باطل في حال تطبيقه\"، إذ كيف يمكن تحقيق ذلك في وقتنا الراهن؟. من الاستحالة في يومنا الحالي أن نستنسخ طريقة الشورى التي تمت في تولية أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي لله عنهم. ففي ذلك الوقت كان يوجد ما يسمى زعماء القبائل وباتفاق زعماء القبائل على شخصية القائد يتولى أمرهم و تحل المشكلة من جذورها. أما في يومنا الحالي وفي بعض الحالات الأخ لا يمثل أخاه، والأب لا يمثل أبنه فكيف تريد أن نعين رؤساء قبائل؟ يمكن تطبيق الشورى بطريقة واحده لا ثاني لها وهي أن يكون هناك مجلس نواب ينتخب أعضائه من قبل الشعب وبذلك يكون أعضاء النواب كرؤساء القبائل، وبعد الاجتماع الأول يعملون على تنصيب رئيس لهم. وبذلك نكون قد طبقنا ما أمرنا به ديننا بطريقة سليمة وملائمة تناسب حاضرنا وماضينا.

أما الحوار مع صديقي العلماني فكان مجهداً ومتعباً إلى أبعد الحدود إذ بدأ بقوله لا نقبل إلا بدولة علمانية (بكسر العين). فقلت للأسف يا صديقي أن كان قصدك العلمانية (بكسر العين) يكون معناها مشتق من العلم، وإن كان هذا قصدك ذلك فنحن لسنا بحاجة لتطبيق نظام العلمانية فالإسلام منذ 1400 عام وأكثر كأن أول و أجدر من أكد على أهمية العلم والتعلم. فإن كنت نسيت أو تناسيت فسأذكرك بأن النبي صلي لله عليه وسلم قال \"الْحِكْمَةُ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ فَحَيْثُ وَجَدَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا\" و قال أيضاً \"طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ\" أما من ناحية الأيات فهي كثيرة ولا مجال لذكرها كلها حيث أن الله تعالى أمر نبيه الكريم بأن يطلب الاستزادة من العلم (وقل ربي زدني علماً) بل وافتتح الله به كتابه الكريم وجعله أول ما نزل على نبينا الكريم في سورة العلق (اقرأ بسم ربك الذي خلق) وفي أية أخرى (الذي علم بالقلم) ومن هنا تكون النتيجة أن حضارة الأمم لم و لن تبنى إلا بالعلم، وأسس هذا العلم القراءة والكتابة.

قال لي لا بالتأكيد لا أعني هذا فقد عنيت بالعلمانية فصل الدين عن السلطة السياسية، قلت له إذاً أنت تعني العلمانية بفتح العين والتي بدأت بأوربا وكان القصد منها اهتموا بهذا العالم ولا تهملوه واتركوا الدين جانباً. لأن في ذلك العصر كانت السلطة بيد رجال الكنسية وجعلوا كل مافي الحياة حراماً وكان الخيار بالنسبة لعامة الناس إما الدنيا وأما الآخرة ولا اجتماع بينهما، فالاستمتاع بالدنيا سيحرمك من نعيم الآخرة، وبدأ رجال الدين يستغلون سلطتهم الدينية للحصول على المكاسب وصار من يريد أن يعمل في السياسة لابد له من أن يكون عالماً بأمور الدين. ومن هنا ظهرت العلمانية (بفتح العين) وجل أهدافها \"عليكم بهذا العالم و لا تهملوه\". ولكن أيضاً هذا لسنا بحاجته في الدولة الإسلامية لأن الدين الإسلامي لم يأمرنا بأن نهمل هذا العالم بل على العكس تماما أمرنا أن نعمل لدنيانا كأننا نعيش أبد لدهر ولأخرتنا على أننا سنموت غداً (طبعاً الأخرة خيرٌ وأبقا) وبالقران الكريم يوجد آيات تدل على الاهتمام بالدنيا والعمل لها (رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) وأية أخرى (وابتغ فيما أتاك الله الدار الآخرة ولا تنسى نصيبك من الدنيا). وبالتالي أن كانت العلمانية التي تطالب بها مكسورة العين تكون دعوتك إلى العلم وهذا حق والدين الإسلامي سباق إليه، أما أن كنت تقصدها بفتح عينها فهي الاهتمام بالعالم وهذا أيضاً في عقيدة الإسلام منذ ألاف السنين.

لخص حديثه صديقي وقال من الأخر \"لا أريد دولة كبعض الدول الإسلامية فأنظر ماذا فعل الإسلام ببعض الدول\". فقلت له توقف يجب أن أذكر لك قول الشيخ معاذ الخطيب \" الإسلام أكبر من أي راية رفعت من أجله \". وعلي أن أوضح لك أيضاً أن جميع من يعملون على إيذاء الناس بحجة الدفاع عن الدين تكون أهدافهم الدفاع عن المكاسب التي حازوا عليها. فبحجة الدفاع عن الدين مثلاُ تعمل إيران على القتال مع بشار في سوريا، وبحجة الدين أيضاً تسعى السعودية وتركيا إلى القتال مع الجيش الحر ضد بشار. والمثير للسخرية أن كلا الفريقين قد أعلنوا الجهاد والقتال تحت راية الإسلام. وإن نظرنا إلى الأمر بتمعن نجد أن كلا الفريقين يقاتل مع طرف ضد طرف من أجل مصالح بلدهم ولا علاقة للدين بالموضوع فلو كان الطرفين كافرين لبقي الوضع على الأرض كما هو.

وأيضاً في حالات أخرى تجد بعض الدول يقومون بأمور خاطئة وتكون هذه الأمور من التراث الشعبي للدولة ولكن للأسف تنسب للإسلام، إذ عندما تذهب إلى مكة المكرمة مثلاً سترا جميع الناس ومن الجنسين معاً يقومون بالطواف حول الكعبة ولكن بمجرد خروجك من مكة يستحال أن تجد مكان عام (كمطعم) لا يقومون بفصل الذكور عن الإناث وهذا للأسف ينسب للإسلام!، مع أن الإسلام أمر بغض البصر والتحشم. ولا يجوز شرعاً أكراه الناس على دين معين أو على أمر معين فالعقاب والجزاء بأمور الالتزام بالدين لله وحده فالمرأة الغير محجبة هي عاصية لله تعالى ومذنبة ولكن عقابها يكون يوم حساب الناس أجمعين ولا يحق لرجل غير منزه عن الوقوع بالأخطاء أن يحاسبها وإن كان بطلاً فعليه أن يهديها إلى الطريق الصحيح لا أن يعاقبها أو يجبرها أجبار بذلك.

سأعطيك بعض العادات الأخرى التي ترتبط بدول معينة و تنسب للدين، مع أنها لم تورد حقاُ والدين براءة منها كبراءة الذئب من دم يوسف. ففي السعودية المرأة ممنوعة من قيادة السيارة، وفي سوريا في زمن قد سلف كانت المرأة تمشي خلف زوجها وكأنها عبده وذكر أسمها من قبل رجل يعتبر عار على زوجها وأهلها، ألا ترى أين هم من قول رسول لله أنما النساء شقائق الرجال؟ أيضاً قد تسمع بفئة من الناس يقال لها هيئة الأمر بالمعروف وسمعنا مؤخراً أنا تسيء المعاملة وتصل إلى درجة أجبار الناس على الفرائض أيضاً أين هم من قول لله تعالى لا إكراه في الدين؟

وبالتالي أنا لا أخشى على الناس من الدين الإسلامي ولكن أخشى عليهم من صنفين من المشايخ، الصنف الأول: تجار الدين الذين يعلمون على إدخال كل مشكلة تواجههم بقالب ديني ليختبئوا تحت عباءة الدين، والصنف الثاني رجال الدين المتشددين إذ أن بعض منهم وبدعوى التحوط قد جعلوا الحياة كلها شبهات ومحرمات وبذلك يكونوا قد ضيقو واسعاً وبقدر ما تضيق على الناس بقدر ما يفروا من الدين. وللأسف أن كان هذا حال القلة القليلة من علماء الدين فإن السواد الأعظم من الناس يتركون التعليق على رجال الدين كلهم ويتتبعون أخطاء القلة القليلة وأكبر الأسف أنهم ينسبون خطأ رجال الدين إلى الدين نفسه.

وفي النهاية إن كان السؤال هل الأنسب خلافة إسلامية أم دولة علمانية؟ يكون الجواب دولة علمانية مرتكزة على أسس إسلامية!، دولة يبتدعها المسلمين تجمع أفضل ما في الدولة الإسلامية وأفضل ما في الدولة العلمانية، تجمع ما أصابت به كل من الدولتين وتسد سلبيات الأولى بإيجابيات الأخرى، دولة لا تسب ماضينا ولا تنكر حاضرنا، دولة تجمع بين العلوم الدينية والعلوم الدنيوية، دولة يدرك أفردها ويعو بشكل واضح أن رجال الدين هم بشر وغير منزهون عن الأخطاء، دولة تمنع وتعاقب تجار الدين، دولة تمنع قادتها من قتال المسلمين تحت راية المسلمين بحجة تكفيرهم. دولة تطبق الإسلام الحق الذي أصبح بعيد كل البعد عن مسلمين اليوم.