يُرجّح أن تكون مفاوضات "جنيف2" واجهةً لمفاوضات أخرى تجري في مكانٍ آخر. فالتسوية بين السوريين لن تُفصّل في قاعة التفاوض بين وفدي المعارضة والنظام، رغم أهمية مجرى المفاوضات في تلك القاعة حيال حصيلة التسوية المُرتقبة بين القوى الإقليمية والدولية الفاعلة.

مؤشران للرهان الإقليمي والدولي على "جنيف2"

ففي غِمار القراءات والتحليلات المختلفة حول جدوى مفاوضات "جنيف2" للتسوية في سوريا، يمكن أن نلتقط جملة مؤشرات تُوحي بوجود جديّة وعزم من جانب بعض القوى الإقليمية والدولية في التعويل على هذه المفاوضات، للخروج بتسوية سياسية مقبولة بين طرفي النزاع في سوريا.

أولى تلك المؤشرات ظهرت قبيل المؤتمر مباشرةً، وتجلت بصورة واضحة في سعي داعمي المعارضة لتثمير أوراق قوتها التفاوضية في مواجهة نظام الأسد.

في هذا السياق، يمكن لحظ مؤشرين واضحين سبقا المؤتمر، الأول: تحرك فصائل معارضة مسلحة، بعضها من كتائب الجيش الحر، وبعضها من الفصائل الإسلامية الجهادية، ذات التوجه السلفي (الجبهة الإسلامية)، للاشتباك بتنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام – داعش"، بالتزامن مع بدء حملة شنتها السلطات العراقية ضد هذا التنظيم في منطقة الأنبار.

المؤشر الثاني: كان نشر صور المعتقلين الذين قُتلوا تحت التعذيب في سجون الأمن العسكري التابع للنظام السوري، عبر وكالة الأناضول الرسمية التركية، وبالتنسيق مع شركة حقوقية بريطانية ذات سمعة عالمية، اتضح أن الأمريكيين على علم بنشاطها منذ أشهر، مع الإشارة إلى أنها كانت تتلقى تمويلاً قطرياً.

هذان المؤشران، خاصة منهما الأخير، يُوحيان بأن داعمي المعارضة الإقليميين والدوليين ينتهجون إحدى استراتيجيات التأسيس للتفاوض في "جنيف2"، وفق أدبيات التفاوض المعروفة في الدوائر المُختصة، مما يُنبئ بجديّة هذه الأطراف في التعويل على المفاوضات.

وللتفصيل أكثر، يمكن في حال مراجعة إحدى الكتب المُتخصصة في أدبيات التفاوض السياسي، في باب "نظريات المباريات"، أن نقرأ في "نماذج التفاعل الاستراتيجي"، ما يُعرف بـ "مفهومي: المعلومات، والتأثير المفضّل"، حيث يبحث أحد طرفي التفاوض عن "معلومات"، ومن ثم يتعرّف كيفية "الاستفادة" منها في التأثير على خصمه في المفاوضات.

نقلة لصالح المعارضة في لعبة الشطرنج

في نماذج التفاعل الاستراتيجي، يركّز كل طرف مفاوض على تحديد الاستراتيجيات التفاوضية لتعظيم المنافع وتقليل الخسائر لصالحه. وهنا يتشابه الأمر مع لعبة الشطرنج، فكل طرف يوظّف استراتيجياته طبقاً للاستراتيجيات التي يوظّفها الطرف الآخر.

ووفقاً لهذا المنظور، نجحت كتلة المعارضة، على اختلاف الفاعلين فيها، بدعم من حلفائها الإقليميين والدوليين، في توظيف استراتيجية "مكافحة الإرهاب"، التي رفع نظام الأسد شعارها منذ أشهر قبل المؤتمر، وذلك عبر ضرب تنظيم "داعش"، الذي ظهر للعالم أجمع، باعتباره أخطر جماعة معبّرة عن التوجّه "الإرهابي" في الميدان السوري. وبذلك وظّفت المعارضة استراتيجياتها التفاوضية طبقاً لاستراتيجيات النظام، وتفوقت عليه في هذه الحيثية، ذلك أن النظام لم يقم بخطوات ميدانية مُعتبرة في ضرب تنظيم "داعش" حتى الآن.

مباراة السوريين تساوي "صفراً"

لكن هنا يجب أن نوضح حيثية معقّدة نسبياً، ذلك أننا لو نظرنا إلى مفاوضات "جنيف2" الجارية الآن على أنها مفاوضات بين طرفي النزاع السوريَين، فإن علينا أن نتوقع الفشل، ذلك أنه ووفق نظريات المباريات، هناك نوعان من التفاوض: الأول، "المباراة تساوي صفراً"، أي أن مكسب أحد الطرفين يكون على حساب الطرف الآخر، فيكسب أحد الطرفين كل شيء، ويخسر الآخر كل شيء. وهي مباراة تؤدي إلى استمرار النزاع والتناحر، وفشل مساعي التسوية.

والعقدة في الحالة التفاوضية السورية، أن مطلب المعارضة يُطيح بأهم مصلحة لرأس النظام والدائرة الضيقة المحيطة به، وهو كرسي الحكم، مما يعني أن تلبية مطلب المعارضة وفق الرؤية الأمريكية التي عبّر عنها وزير الخارجية جون كيري مراراً في الآونة الأخيرة، بأن لا دور للأسد في مستقبل سوريا، يعني خسارة كاملة فعلياً للدائرة الضيقة الممسكة بزمام السلطة في رأس هرم النظام السوري.

مباراة الداعمين "اكسب واكسب"

لكن في حال نظرنا إلى مفاوضات "جنيف2" على أنها واجهةٌ تستُر مفاوضات تتم فعلياً، وراء الكواليس، بين القوى الدولية والإقليمية الداعمة للطرفين، عندها سنجد أن المباراة التفاوضية قد تتم وفق النوع الثاني في نظريات المباريات، وهي المباراة "اكسب واكسب"، حيث لا تكون المحصلة صفراً لأيّ من الطرفين، وتكون هناك مساحة للمكسب لصالح الطرفين. فحلفاء الأسد يهمهم بالدرجة الأولى، مصالحهم في سوريا، وفي حال تم تلبية تلك المصالح، دون الحاجة للأسد، وعبر بدائل أخرى، حينها يمكن حل المشكلة، وتقاسم النفوذ بين المتصارعين الإقليميين والدوليين على التراب السوري، والوصول إلى تسوية سياسية للحرب الدائرة اليوم.

ما سبق يعني حقيقة قد تكون مُرّة على البعض، وهي أن التسوية الحقيقية للأزمة السورية لن تُفصّل في قاعة مفاوضات "جنيف2" بين وفدي المعارضة والنظام، لكنها ستتم وراء الكواليس، بين عواصم القوى الدولية والإقليمية الفاعلة في الشأن السوري، ومن ثم ستُفرض على ممثلي الوفدين السوريَين بجنيف، لإقرارها.

يرد هنا تساؤل منطقي: لماذا يعوّل داعمو الطرفين على مفاوضات "جنيف2"، ويدعم كل منهما حليفه عبر تثمير أوراقه التفاوضية، ما دامت المفاوضات الحقيقية تتم في مكانٍ آخر؟....الجواب هو أن المكاسب التي يحققها أحد وفدي التفاوض تدعم بدورها مفاوضات داعمييه غير المعلنة، عبر إظهار شريك الطرف الآخر بأنه عاجز أو أنه غير جدير بالثقة.

العُقدة الإيرانية وسيناريوهات الحل

لا يعني ذلك أن التسوية قد تمت، ذلك أنه إن كانت عُقدة ضمان المصالح الروسية في الساحة السورية سهلة الحل، فإن عُقدة ضمان المصالح الإيرانية ما تزال صعبة للغاية، خاصةً أن النفوذ الميداني الإيراني بات وازناً في الداخل السوري، عبر الميليشيات الشيعية التي تقاتل إلى جانب الأسد، مما يعني أن أية تسوية، من الصعب أن تمرّ، دون التفاهم مع إيران، ويبقى السؤال، كيف ستضمن إيران مصالحها في سوريا، دون بشار الأسد والدائرة الضيقة المقرّبة منه؟

يعتقد بعض المراقبين أن العقدة الإيرانية لن تُحل عبر ضمان مصالح طهران في سوريا، بل عبر مبادلتها بمصالح أوزن، بالنسبة لها، في إقليمٍ آخر، أو عبر تحويل أوراق القوة الميدانية الإيرانية في سوريا ولبنان، إلى أوراق سياسية واقتصادية، وتمتينها بضمانات عسكرية تُطمئن طهران، باتجاه دمجها بكامل الإقليم الشرق أوسطي، في ظلال تفاهم روسي – أمريكي، يجعل للعاصمتين الدوليتين، الكلمة الفصل في شؤون الإقليم، على حساب قواه الثلاثة الوازنة، إيران وتركيا وإسرائيل.