الجمهورية
السورية، هذا هو الاسم الرسمي لسوريا منذ فجر الجمهورية الأولى عام 1932 وحتى قيام
الوحدة مع مصر.
لم
يكن رجالات ذلك الزمن ناكرين أو جاحدين للعروبة، عندما كانوا يطلقون أسماء بلادهم
وجيشهم بسوريا فقط دون أن يسبقوها بكلمة العربية، بل على العكس ماقدمه هؤلاء في
سبيل القضايا العربية لم يقدمه جميع من جاء بعدهم، ولكنهم كانوا على قدر كبير من
المعرفة ليدركوا، أنه ما من أمة في الوجود توحدت وكياناتها تعاني الأمرين من الظلم
والاستعباد ولم يشاؤوا أن يجعلوا من المتاجرة بالقضايا العربية قضيتهم الأولى فكان
شعارهم "سوريا أولاً ..." ومن سوريا تنطلق شعلة النور التي تضيء الدول العربية أجمع
فتتأثر بنورها وتتوحد في بوتقة التطور والحضارة.
كان حب الوطن والإخلاص له، هو
الذي جعل من دولة حديثة العهد بالاستقلال كسوريا أن تصل إلى مصافي الدول الكبرى في
العالم بأقل من عشر سنوات، لقد عرفت سوريا معنى الحريات ومعنى الانتخابات ومشاركة
المرأة في العمل السياسي والتطور الاقتصادي والصناعي الكبير، وذلك لأن قضية تطور
الوطن السوري كان أولاً، لإصلاح أي خلل سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي .
وقد
جاء في مجلة "الشهباء" الحلبية الصادرة في العام 1933 تقديم رائع لكلمة "الوطنية"
جاء فيه:
" العصفور الفرد يسبحها في
الصباح الباكر والجدول الرقراق يخرخر بها في كل منفرج ومضيق والنجم اللائلى يوسوس
بها في ارتجاج أنواره واهتزاز أضوائه والسهل المنبسط والبحر الواسع يتحدثان بعظمتها
وجبروتها والطود الأشم يباهي بترفعها وكبرياءها
وللوطنية وقفات جريئة ووثبات
جبارة حولت مجرى التاريخ من ناحية إلى أخرى وطالما تلاعبت بالدول الكبيرة والأمم
العظيمة تلاعب الصبية بالكرة وطالما أيقظت ثورات ودحرجت تيجان ذهبية وحطمت صوالجاً
ذهبية كان يهتز لها الدهر واجفاً إن هي اهتزت في أيدي أربابها وكم تجلت بطولتها في
ميادين الحروب فجعلت من الصعاليك الجبناء جبابرة بسلاء ...
أما الوطنية المحلية التي كهربت
أسلاكها القاصي والداني وأصبحت أنشودة يترنم بها كل من أوتي من النطق وتلك ظاهرة
جديدة لم نعهدها في العهد التركي البائد وإنها لظاهرة تدعو إلى الخير والتفاؤل إذا
سارت في طريق التعقل والرزانة ولكن وطنيتنا تحتاج إلى المغذيات والمقويات وأنا واثق
أن هناك من سيتعرض بوجهي قائلا:
ولكنك تتعامى عن وجود هذه
المقويات والمغذيات ، ألست ترى هذه التظاهرات العديدة والاضرابات في طول البلاد
وعرضها ، ألا تطالع المقالات الثورية الدامية.
والجواب على هذا ألا يعلم هولاء
بدورهم أننا نشكو التخمة من كثرة الأقوال المرصوفة؟ ألا يعلمون أن ضربة المعول تغني
عن ألف تظاهرة؟ ألا يعلمون أن كيس شمنتو تصدره دمشق خير من ألف إضراب واحتجاج هذه
هي المغذيات والمقويات التي نطالب بحقن الوطنية بها لتستعيد شبابها المتهدم وقوتها
الخائرة.
فالوطنية الاقتصادية ينبغي أن
تحيا وتعيش قبل وطنية المآرب والوطنية التي لا تسندها الأعمال الاقتصادية ليمكنها
أن تعيش مستقيمة ودعائم الوطنية هي ثروات الوطن الاقتصادية وهناك أيضا التضحية
والمصلحة العامة وهي أيضا من المغذيات والمقويات.
علموا أولادكم الوطنية الحقيقية
عن طريق العمل للوطن خففوا من الأقوال واهتموا كثيرا بالأعمال وبهذا تعيش الوطنية
الحقيقية ويتقرض ذنب الوطنية الزائفة ".
هذا التقديم الرائع للوطنية
رافقه العديد من المقالات من سياسيين ومدرسين لتعليم الوطنية للجيل النشئ، وماهو
المثل الأعلى الذي يتوجب على الشباب السوري الاقتداء به، ومن ذلك مانشرته مجلة
الجزيرة في العام 1935 حيث أوردت مقالاً تحليلياً لعدد من كبار الوطنيين السوريين
للإجابة على سؤال: ماهو المثل الأعلى الذي تنشده بالشباب السوري فكانت الإجابة:
فارس بك الخوري: إذا لم يبادر
الشاب السوري لاقتحام ساحة الإنتاج ، فإنه سيبقى عالة على غيره من المنتجين وعاجزاً
عن خدمة نفسه ووطنه مادام هذا الوطن عالة على الغير....!
الدكتور رضا بك سعيد:إنني أنشد
في الشباب السوري ثلاثة أمور : حبه لوطنه وحبه لأسرته وحبه للعلم .
الدكتور منيف بك العائدي
: المثل الأعلى الذي أنشده للشباب االسوري هو أن يكون مفادياً
في سبيل وطنيته ، جباراً بشخصيته ومعنوياته.
الدكتور سامي بك الميداني
: المثل الأعلى للشباب السوري أن يسعى للعلم والعمل
والأخلاق من المهد إلى اللحد ويكرس نفسه ونفيسه للتضحية في سبيل هذا المثل الأعلى
....
وبالفعل لعبت الوطنية وبعثها في
الروح السورية دوراً كبيراً، في ارتقاء وتطور سوريا وعلى مختلف الأصعدة ولربما
أهمها على الصعيد الاقتصادي، حيث خرجت سوريا من طور الضعيف المستهلك إلى دور القوي
المنتج، واتسعت رقعة الصادرات لدول العالم والذي تناسب بدوره مع انحدار رقعة
المستوردات كون سوريا أصبحت تنتج كل شيء أساسي في معيشة مواطنيها وفي سبيل ارتقائهم
وتطورهم.
بقي الحال كذلك إلى أن دخلت
سوريا وحدتها المشئومة مع مصر، تحت مايسمى "بالجمهورية العربية المتحدة" عام 1958
فأغلق كل ماهو وطني من صحف ومجلات وأحزاب ومعامل، كل ذلك في سبيل وحدة غير مدروسة
كما وصفها العديد من الرجالات السياسية في ذلك الزمن.
ولم يختلف عهد الوحدة عن عهد
استلام البعث للسلطة عام 1963، بل زاد سوءاً حيث اصطنع سياسيي ذلك العصر إلى اليوم
قضية القومية العربية وانبعاثها على حساب القضية الوطنية والدكتاتورية ومصادرة
الحريات والفقر الذي عاش بها الشعب منذ تلك الحقبة إلى اليوم، كل الفساد الداخلي
كان يعلق على شماعة "قضية فلسطين العربية" دون أن يحدث أي تطور على صعيد هذه القضية
نفسها.
لقد أتقن الحكام الذين جاؤوا
منذ عهد الوحدة إلى اليوم لعبة "شماعة القضايا القومية" واستغلوا طيبة الشعوب
العربية واندفاعها في سبيل تحقيق أمنياتها في الوحدة، ليسرقوا وينهبوا ويستبيحوا
مايشاؤون كل ذلك بحجة وجود قضية عربية، ولو عمل هؤلاء كما عمل غيرهم من القادة
الوطنيين في السابق، فوطدوا أركان وطنهم أولاً وأشبعوا شعوبهم وأذاقوهم من ينابيع
الكرامة والحرية لكانت قضية فلسطين وغيرها من القضايا العربية قد حلت منذ زمن بعيد.