يختلف المراقبون والمنظّرون السياسيون فيما بينهم حول تفسير أجندات الأمريكيين في سوريا، وغاياتهم الحقيقية. لكن تتبع تصريحات وأداء الإدارة الأمريكية ومسؤوليها في الملف السوري، يُفيدنا بأن الأمريكيين واضحين جداً، بل، وربما، بصورة غير مسبوقة في سياساتهم الشرق أوسطية.

وكمثال على وضوح الرؤية الأمريكية في الشأن السوري، يمكن لنا أن نرجع إلى واحدٍ من أكثر تصريحات الرئيس الأمريكي، باراك أوباما، صراحةً وجلاءً، هي تلك التي أدلى بها أثناء لقائه مع "بلومبرغ فيو" منذ ثلاثة أشهر، ونقتطف منها الفقرة الآتية، والتي تحتوي خلاصة النظرة الأمريكية لما يحدث في سوريا: "إنني أتسلى دائماً بتأمل الفكرة القائلة بأن إيران كسبت في سورية بطريقة أو بأخرى. أعني، إنك تسمع الناس يقولون أحياناً، "إنهم يكسبون في سورية". وأنت تقول "كان هذا البلد صديقهم الوحيد في العالم العربي، وهو عضو في جامعة الدول العربية، وقد أصبح الآن أنقاضاً". ذلك يستنزفهم لأنهم في حاجة إلى إرسال المليارات من الدولارات. ووكيلهم الرئيسي، حزب الله، الذي كان يتمتع بوضع مريح وقوي جداً في لبنان، يجد نفسه الآن تحت هجوم المتطرفين السنة. هذا ليس جيداً بالنسبة لإيران. إنهم يخسرون مثل أي طرف آخر. والروس يجدون صديقهم الوحيد في المنطقة ركاماً وفاقداً لشرعيته أيضاً".

وللتدليل على أن هذه الرؤية هي السائدة لدى صانع القرار الأمريكي، يمكن لنا أن نراجع تعليق وزارة الخارجية الأمريكية على تصريحات للرئيس بشار الأسد بأن "المرحلة النشطة من العمليات القتالية في سوريا ستنتهي بحلول نهاية هذا العام". إذ كان تعليق الخارجية الأمريكية لافتاً حينها.

فقد توقع الرئيس السوري بشار الأسد أن تنتهي غالبية العمليات العسكرية الكبيرة بحلول نهاية العام. وتحدث الأسد حينها عن "مرحلة انعطاف" و"إنجازات متواصلة" تحققها قواته و"مصالحات وطنية" في المناطق التي دخلتها بعد انسحاب مقاتلي المعارضة. وأوحت تصريحات الأسد تلك بقناعته أنه في طور "الانتصار"، وترافق ذلك مع سعيه لإعادة ترشيح نفسه لحكم سوريا سبع سنوات جديدة.

بالمقابل، علّقت وزارة الخارجية الأمريكية حينها، أنها لا توافق الأسد تحليله بأن النزاع المسلح في سوريا يمر حالياً بـ "مرحلة انعطاف" لصالح نظامه، مشيرة إلى أن ما يجري فى سوريا هو "حرب استنزاف". وقالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأمريكية حينها، أن "تحليلنا يبقى على حاله، أي أنها حرب استنزاف وأن ما من طرف استطاع أن يحرز أو أن يحافظ على مكاسب مهمة". وأكدت أنه سيكون من الخطأ الاعتقاد أن كفة الانتصار فى ميزان الحرب تميل لصالح الأسد.

إذاً، يرى الأمريكيون ما يحصل في سوريا حرب "استنزاف" لكل الأطراف، وأن نظام الأسد وحلفاؤه، خاصة في إيران، أحد الأطراف المُستنزفة. أما الطرف الآخر فهم الجهاديون السُنة، كما يعتقد مراقبون.

ما يهمنا مما سبق أن الأمريكيين يراهنون على استنزاف إيران في "المستنقع السوري"، تكراراً، على ما يبدو، لتجربة استنزاف الاتحاد السوفيتي السابق في أفغانستان، في عقد الثمانينات. وهي التجربة التي يعتقد مراقبون أنها كانت أحد الأسباب غير المباشرة في انهيار الاتحاد السوفيتي السابق.

لا يعني ما سبق أن الأمريكيين يريدونها حرباً باردة في سوريا حتى النهاية، على العكس، هم يراهنون على انصياع الإيرانيين، في نهاية المطاف، إلى منطق المصلحة، وتغليب "السلامة"، خاصة المالية والاقتصادية في بلدٍ يعاني شعبه الثري نفطياً، من مستويات معيشية مُتدنية نسبياً. أي، يأمل الأمريكيون أن ينصاع الإيرانيون لبراغماتيتهم المعهودة، وأن يقبلوا بتسوية شاملة مع الأمريكيين، تتضمن ملف إيران النووي في المقدمة، وتتضمن أيضاً، ترتيبات لإدارة المناطق الخاضعة للنفوذ الإيراني، بالتوافق مع الغرب وحلفائه الإقليميين في المنطقة.

وبالتالي، فإن استنزاف إيران في سوريا هو أداة لدفع طهران إلى التفاهم مع الغرب بسقف مطالب متدني عن ذلك الذي تطالب به الآن.

يعلم الإيرانيون بطبيعة الحال ذلك، وكان تقدم حسن روحاني إلى سدة  الرئاسة أولى الرسائل التي بعثت بها النخبة الإيرانية لواشنطن، لتقول فيها أن ملالي طهران مستعدين للتسوية. فكان اتفاق جنيف الخاص بنووي إيران في نهاية العام المنصرم.

وأثناء التفاوض، الذي بدأ منذ أسابيع، يحاول كل طرف أن يرفع من قيمة أوراقه التفاوضية، وهكذا دفعت إيران بقوة نظام الأسد نحو "الانتخابات الرئاسية"، لإعادة تنصيب الأسد على سدة الرئاسة بدمشق. فترفع بذلك سقف مطالبها التفاوضية عبر الإصرار على أن تتم أية تسوية في سوريا بما يتناسب مع مصالح إيران، وهو ما عبّر عنه أمين عام حزب الله، حسن نصر الله، حينما قال في خطابه الذي أعقب "فوز" الأسد في "انتخابات الرئاسة"، أن "الحل السياسي في سوريا يبدأ وينتهي مع بشار الأسد".

إيران تريد تفويضاً غربياً في سوريا، قد يتم بشراكة مع السعودية، التي يبدو أنها استجابت أخيراً للرغبة الأمريكية بالتفاوض مع طهران، ووجهت دعوةً لوزير خارجية الأخيرة لزيارتها. لكن إيران تريد أن تحظى بموقع في سوريا، يشابه موقع الأخيرة في لبنان منذ عقدٍ، وبشراكة مع السعودية، تشابه شراكة الأخيرة مع حافظ الأسد في "اتفاق الطائف" الذي وضع خاتمة لحرب لبنان الأهلية في نهاية الثمانينات، وجعلت رفيق الحريري شريك السوريين "السعودي" في لبنان. لكن بقيت الكلمة العليا للأسد الأب على الساحة اللبنانية.

إيران تريد اليوم تكرار نموذج النفوذ السوري في لبنان، وهي باتت متواجدة بقوة، ميدانياً، على التراب السوري، لكن الغرب على ما يبدو، لا يعتزم القبول بهذه المعادلة، خاصة أن استقرار الأمر لإيران، ميدانياً، في سوريا، يعني أن حزب الله سيتمتع بحرية الحركة على كامل الجبهة الشمالية لإسرائيل، بما فيها جبهة الجولان، وهو أمر لن ترتاح له تل أبيب.

وهكذا، ما دامت طهران تحاول أن ترفع من قيمة أوراقها التفاوضية، بما فيها نظام الأسد بدمشق، فإن الغرب على ما يبدو، سيذهب قُدماً في إدارته غير المباشرة، لحرب الاستنزاف الجارية على التراب السوري، وهي حرب انتقلت أخيراً إلى العراق، لتوسع من مساحة "المستنقع" المُراد للإيرانيين الغرق في أوحاله.

بطبيعة الحال، يرفض مراقبون كُثر النظرية سابقة التفصيل، من منطلق أن الغرب يخشى من أن يجد "الإرهاب" مساحة واسعة آمنة وثرية بالموارد، يسيطر عليها، ويجعل منها قاعدة ليدير عمليات انتقامية من الغرب، مشابهة لتلك التي قادتها "القاعدة" في أحداث 11 أيلول 2001.

لكن في مقابل تلك الاعتراضات، يعتقد مراقبون آخرون أن الغرب ما يزال مطمئناً إلى قدرته على تطويق حالة الفوضى في المنطقة، لتنحصر في المساحات التي يريدها تحديداً. فهو يعمل على تأمين الجبهة الجنوبية من سوريا، بغية تأمين حدود إسرائيل عبر دعم فصائل معارضة سورية معتدلة. ويبدو أن الغرب سيذهب قُدماً في هذا الخط، الذي سبق أن بدأ به فعلاً.

أما في قلب "الهلال الخصيب"، ما بين سوريا والعراق، يمكن أن يترك الغرب الساحة لصراع المتطرفين "سُنة وشيعة". ولا ضير في أن يصل التهديد إلى أبواب بغداد، أو أن يرتد، ربما في المستقبل القريب، إلى مواقع يظن نظام الأسد أنها حصينة في المساحة التي يسعى لتأمينها، لصالحه، في سوريا. ففي الحالتين، سيزداد معدل استنزاف إيران، بالمال، وبالرجال. وكلما طال أمد ورطتها تلك، كلما اقتربت طهران من اللحظة التي تصبح فيها قاب قوسين أو أدنى من خفض سقف مطالبها التفاوضية، وقد يتضمن ذلك التخفيض تغييراً جذرياً في تركيبة النظام السوري، خاصة أن لإيران اليوم، نفوذاً مباشراً فيه، يؤهلها لأن تدير عملية التغيير تلك، بأمان أكبر، دون أن يؤدي ذلك لسقوط النظام برمته.

ويبقى أن الأيام القليلة القادمة كفيلة في تقرير مدى دقة التحليل السابق، خاصة إذا استمر تقدم "الجماعات المسلحة" غامضة الهوية والانتماء، في العراق حالياً. وخاصة إذا تحول تهديدها لبغداد تهديداً مُستديماً ومُستقراً. فإن ذلك يعني، بكل بساطة، أن "المستنقع السوري" امتد ليشمل اليوم غرب العراق وشماله، وأن على إيران أن تبذل المزيد من الجهود لتمدّ الحكومة الحليفة لها في بغداد بعوامل الصمود، ناهيك عما سيخسره نظام الأسد بدمشق من موارد ومقاتلين سينسحبون إلى موطنهم الأصلي جنوب العراق للدفاع عنه في مواجهة المدّ المُفاجئ لمقاتلي "السُنة".

لننتظر ونرى...هل ستكون إيران "سوفيتية" في سوريا "أفغانية" اتسعت اليوم لتشمل مساحات واسعة من العراق؟، أم سيكون تقدم "المسلحين" المُفاجئ في العراق، مجرد عاصفة صيف عابرة؟