قد تكون من المفارقات أن ترفع صحيفة تشرين الرسمية الخاضعة لسيطرة النظام شعار "ولاية النصر" في إشارة إلى الفترة الثالثة من حكم الرئيس السوري بشار الأسد، في الوقت الذي "تُدشَن" فيه هذه الفترة بخسارة "ولاية الرقة" تماماً لصالح تنظيم "الدولة الإسلامية – داعش".

مكمن المفارقة أن إعلام النظام، وإعلام "داعش"، استخدما التعبير التاريخي ذاته، "ولاية"، بما يحويه من "إيحاءات عاطفية" تمس "لاوعي" المسلمين عموماً، عبر تذكيرهم بتعبير إداري لطالما اسُتخدم في عهود ازدهار الدولة الإسلامية في العصور الوسطى.

 وربما تكون تلك المفارقة إشارة "غيبية" إلى أن خاتمة أحد الطرفين، ستكون على يدّ الآخر. خاصةً إن تمتع كلاهما بسمتَي "الاستبداد كوسيلة للحكم"، و"العنف المفرط كوسيلة للتخلص من المنافسين على السلطة".

وقد تكون إحدى المفارقات المقصودة أيضاً، أن يُدشِن الرئيس السوري بشار الأسد فترته الثالثة بخطابٍ يعرّج فيه، بعجالة، على الرقة، متعهداً باستعادتها، واصفاً إياها بـ "الحبيبة"، ومن ثم، وبعد أسابيع فقط، تتوالى هزائم النظام هناك، في الرقة تحديداً، ليخسر النظام مئات الضحايا من جنوده في واحدة من أكبر انتكاساته العسكرية منذ بدء الصراع المسلح في البلاد.

وقد تكون مفارقة أخرى أيضاً أن يتوقع الرئيس الأسد تحولاً نوعياً في مسار العمليات العسكرية قبل نهاية العام 2014، مُوحياً بأن نظامه في طريقه للانتصار خلال أشهر، وأن خاتمة المعارك ستكون لصالحه. لكن بعد أشهر من توقعات الأسد تلك، تتعرض قوات النظام لسلسلة هزائم على يدّ "داعش" في الرقة، تتطلب تدخلاً جوياً غير مسبوقٍ على مقار التنظيم في المحافظة، التي خلت أجواؤها من طيران النظام لأكثر من عام، إلا ما ندر، خلال سيطرة "داعش" المُستقرة عليها.

وزير الخارجية السوري، وليد المعلم، يتحدث اليوم عن استعداد النظام للتعاون والتنسيق مع "الجميع" - عدة خطوط تحت كلمة "الجميع" - لمكافحة الإرهاب.

يعتقد مراقبون كُثر أن تلك هي اللحظة التاريخية التي لطالما انتظرها النظام السوري ليعزز مكانته الوظيفية في المنطقة كسدّ في مواجهة "الإرهاب"، وفي نفس الوقت، ضامناً للاستقرار على الجبهة الشمالية لإسرائيل. وأن "داعش" ستكون كلمة السرّ التي ستكفل لمسؤولي النظام، مرة أخرى، الولوج إلى عالم "الشرعية" الدولية، عبر تعاون دول الغرب ودول الإقليم معهم، وبصورة رسمية، لدحر "داعش". فوليد المعلم أكد أن "الغارات الجوية لا تكفي للقضاء على داعش والنصرة"، في إشارة إلى استعداد النظام للتنسيق الأمني والعسكري مع الغرب ودول الإقليم، باعتباره الظهير البرّي للغطاء الجوي "الأمريكي"، ضد "داعش".

فهل هي حقاً..."ولاية النصر"؟...بمعنى أن النظام السوري سيستعيد إقرار الغرب، ودول الإقليم الفاعلة، بمكانته الداخلية والإقليمية؟

يعتقد مراقبون آخرون العكس، ويقرأون في تصريحات وليد المعلم الأخيرة طلباً، غير معلنٍ، للنجدة من الغرب. فانتكاسات النظام المتتالية في الرقة، رغم الغطاء الجوي، ورغم ما قيل عن تنسيق أمني أمريكي مع النظام، وصولاً إلى اشتراك الطيران الأمريكي في الغارات على مواقع "داعش"، حسب تسريبات...إنما تؤشر، هذه الانتكاسات، إلى أن الندّ الجديد ليس من النوع الذي خَبِرَه النظام جيداً.

يُجمع كل العسكريين المختصين بأن الضربات الجوية، حتى لو كانت أمريكية المصدر، لن تكون كفيلة بدحر "داعش"، ووقف تمددها. بل يجب أن يكون هناك مقاتلون شرسون مستعدون لمواجهتها براً. خاصةً في ظل نقص المعلومات الاستخباراتية الأمريكية بخصوص مواقع التنظيم وقياداته، حسب تصريحات لمسؤولين أمريكيين مؤخراً.

فهل قوات النظام قادرة على أن تكون تلك الجهة التي ستواجه "داعش" براً؟...تجربة "ولاية الرقة" لا تُوحي بذلك أبداً...بل على العكس، يعتقد مراقبون مختصون أن طريق "داعش" نحو مدينة حماه، بات مفتوحاً، بعد السيطرة على مطار الطبقة العسكري...ما سبق يعني أن "داعش"، بكل تطرفها ووحشيتها، ستصبح على أبواب العمق الاجتماعي الحاضن والموالي للنظام في ريف حماه الغربي.

بغض النظر عما سبق، لا بدّ أن النظام السوري سيمضي قدماً، كما كان يفعل لأكثر من ثلاث سنوات، في استراتيجياته العسكرية والأمنية التي تتمحور حول غاية واحدة، وهي القضاء على أي بديلٍ أو منافس له على السلطةٍ، أياً كانت الأثمان. لا يردعه عن ذلك أن يُقامر بحياة المئات، وربما مستقبلاً، الآلاف من مقاتليه. ولا يردعه أيضاً أن يصل التهديد إلى أبواب الحواضن الاجتماعية التي لطالما قدّم نفسه على أنه الضامن لأمنها. ولا يردعه أيضاً أن ينسل المزيد من الحانقين عليه، من أبناء الحواضن المتضررة من حربه الشعواء، إلى صفوف أخطر التنظيمات المتطرفة التي عرفها تاريخنا المعاصر حتى الآن. لا يردعه كل ما سبق. كرسي الحكم وحده هو الغاية، وأي شيء آخر لا يعدو وسيلةً مهما كانت التضحية به مُكلفة على الصعيد الإنساني والوطني والاجتماعي والاقتصادي.

بطبيعة الحال، في وارد النظام التعاون مع "الجميع"، لمكافحة "داعش"، لكن "الجميع" هذه تعني، دون شك، القوى الدولية والإقليمية الفاعلة، ولا تعني بأي شكل كان، شركائه في الوطن من المعارضين لحكمه، والمعارضين لـ "داعش" في آن.

دون شك، لا يمكن لأي مؤرخٍ أو خبير سياسي أو اجتماعي أن يقنع النظام السوري بأن مواجهة "التطرف"، خاصة إذا وصل إلى هذه الدرجة من التنظيم والكفاءة، كما في حالة "داعش"، لا يكون إلا بائتلاف وطني جامع، يُشارك فيه أكبر قدر ممكن من الشركاء في الوطن. بحيث يتم عزل المتطرفين عن المعارضين، وجذب الفريق الأخير إلى تحالف وطني يستطيع مواجهة "التطرف".

ولا يمكن، بأي شكل من الأشكال، أن يتم إقناع النظام بأن كل التجارب التاريخية المماثلة، في أفغانستان والعراق واليمن، وسواها، أثبتت بالبرهان العملي، استحالة الحد من تمدد "التطرف"، إلا عبر عزله عن حواضنه الاجتماعية، وتجفيف منابع "المؤمنين" به، بواسطة حلول سياسية تُراعي مصالح المضطهدين والمكلومين، وتجعلهم سنداً لـ "دولة" تمثل "الجميع"، الجميع في الداخل، في مواجهة "التطرف".

كل ما سبق لا يمكن أن يترك أي صدىً في أسماع مسؤولي النظام، لأن الحلول السياسية التي تراعي مصالح المضطهدين تعني التضحية بمكاسب سلطوية تعززت لعقود، يبدو أن أصحابها مستعدين للتضحية بكل شيء، وأي شيء، في سبيل بقائها في قبضتهم.

 لكن، لأنها "ولاية النصر"، شاءت الأقدار أن "تُدشَن" بهزائم تُبشر بأن الاستمرار في استراتيجيات النظام ذاتها، المترافقة مع رفضٍ مُطلقٍ لأي تفاهم مع شركائه في الوطن، قد تكون خاتمته أن تحلق "الرايات السوداء" على أبواب "ولاية دمشق". ربما حينها فقط قد يصحو النظام من غيبوبة "غرور القوة الأمنية والعسكرية". لكن دون شك، سيكون الأوان حينها قد فات تماماً.