"داعش" أداة استنزاف مُرتقبة لنظام الأسد وحلفائه

أظهر مسؤولو النظام السوري هلعاً ملحوظاً في بدايات الحديث عن "التحالف الدولي" ضد تنظيم "الدولة الإسلامية" المعروف إعلامياً بـ "داعش". هلعٌ وصل إلى حد التهديد باستهداف طائرات التحالف. لم يهدأ هذا الهلع إلا عندما أوضحت الولايات المتحدة الأمريكية، قائدة التحالف، وبصورة جلية، أنها ليست في وارد استهداف النظام السوري في حربٍ تحدث مسؤولون أمريكيون أنها قد تستمر سنوات.

 ويبدو أن رسائل تطمينية وصلت إلى دمشق، عبر وسطاء، جعلت لهجة مسؤولي النظام تتغير صبيحة البدء بالضربات الجوية لتنظيم "الدولة" داخل الأراضي السورية، وذلك رغم مشاركة دول خليجية ترفع راية العداء علناً في وجه النظام بدمشق.

الهلع ذاته تبدى مرة أخرى، وإن بوتيرة أقل، حينما بدأ الجدل العلني بين تركيا والولايات المتحدة الأمريكية، حول شروط الأولى للمشاركة في الذود عن عين العرب "كوباني" في مواجهة تقدم "داعش". هذا الهلع تبدى أيضاً إيرانياً. لكن الهدوء عاد مرة أخرى إلى لهجة مسؤولي النظام بدمشق بعد أن أبدت واشنطن، وبوضوح، أنها ليست في وارد مناقشة فكرة "المنطقة الآمنة" في الوقت الراهن.

إحدى "القُطب" التي أثارت هلع مسؤولي دمشق، في نسيج الخطة الأمريكية لمحاربة "داعش"، هي تلك التي تحدثت عن تدريب "معارضة سورية معتدلة"، لتملئ الفراغ مكان "داعش". وهو هلعٌ تراجع أيضاً حينما صدرت عن المسؤولين الأمريكيين تصريحات متضاربة وغريبة مفادها أن المعارضة السورية المأمولة سيتطلب تأسيسها، سنة، كحدٍ أدنى، إن لم يكن سنوات.

في خضم ما سبق، وصلت للنظام السوري رسالتين، إحداهما سلبية، والثانية إيجابية. أما الأولى السلبية، فهي أن الولايات المتحدة الأمريكية ليست في وارد إعادة النظام إلى عالم "الشرعية الدولية". فالأخير مُتهم بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وبالتالي، هي ليست في وارد "مصافحته" علناً. مما يعني أن نظام الأسد لن يستعيد وضعيته الإقليمية والدولية التي كان يحظى بها قبل بدء الحراك الثوري ضده في آذار 2011.

أما الرسالة الإيجابية، فهي أن واشنطن ليست بصدد إسقاط النظام، في المدى القريب، على الأقل. بل هي ليست بصدد المساعدة على إسقاطه أيضاً.

الرسالة الأولى، السلبية، تقبلها النظام على مضض، فهو يأس من أن يستعيد وضعه السابق. فجميع الأطراف الإقليمية والدولية التي تتواصل معه، مباشرةً، أو عبر وسطاء، باستثناء حلفائه العلنيين، تتحرج من الإقرار بأي اتصالٍ معه. إذاً، نظام الأسد لن يرجع بحلته القائمة إلى عالم "الشرعية الدولية". ويتطلب تحقيق ذلك إعادة تأهيله، التي تعني بصورة أو بأخرى، خروج النواة الصلبة في هرمه من السلطة، على الأقل علناً.

الرسالة الثانية هي التي سمحت لنظام الأسد أن يتقبل الأولى. فهو كعادته يراهن على عامل الوقت. ويعتقد أن الزمن كفيل بتغيير كل شيء، وأن لا حتمية في عالم السياسة، وبالتالي، فإن مطالبات باراك أوباما لبشار الأسد بالتنحي منذ أكثر من ثلاث سنوات، يمكن أن تذهب أدراج الرياح بالفعل، ويمكن أن تتقبل واشنطن، من جديد، بشار الأسد، رئيساً مُعترفاً به لسوريا، ويحظى بعلاقات دبلوماسية مقبولة مع الإدارة الأمريكية الحالية، أو القادمة، في أسوأ الأحوال. كما يظن صناع القرار في العاصمة السورية، على ما يبدو.

تبقى تلك "القُطبة" المُثيرة للجدل، في نسيج خطة أمريكا للحرب ضد "داعش". "المعارضة السورية المعتدلة" التي سيجري تدريبها.

لا بد أن الحديث عن قبول كل من السعودية، وتركيا مؤخراً، القيام بأدوار فاعلة في تدريب هذه المعارضة، بالتوافق مع الأمريكيين، تنغص على مسؤولي دمشق الكثير من لياليهم.

منذ أيام، كان من الممكن أن يتم رصد مؤشرات التوتر حيال سيطرة المعارضة السورية على إحدى المواقع الاستراتيجية في درعا، جنوب العاصمة، "تل الحارة". فدرعا، من المفترض أن تكون السبيل الذي ستسلكه المعارضة المُدربة القادمة من السعودية، على الأغلب. ناهيك عن الحديث المتكرر عن مئات وربما آلاف المقاتلين السوريين المدربين منذ أكثر من سنة في الأردن، على يد المخابرات الأمريكية، سراً.

وإن كان نظام الأسد يخشى من أجندات تركيا، خاصةً وسط التطورات التي همشت طائراته عن أجزاء واسعة من الأجواء السورية في الشمال الشرقي. إلا أن خشيته من أي تطورٍ على الحدود السورية – الأردنية، يبدو أنها أكبر بمرات. فدمشق على مرمى حجر من الحدود.

بالتزامن مع ما سبق، يبدو، حسب مراقبين عسكريين، أن الأمريكيين يركزون على ضرب "داعش" في العراق، وفي محيط عين العرب "كوباني"، فيما يبدو أن استهدافهم لمواقع ومقاتلي التنظيم في المساحات الشاسعة التي يسيطر عليها في باقي الأراضي السورية، محدود للغاية. الأمر الذي قد يدفع التنظيم إلى نقل جزء أكبر من مقدراته البشرية والقتالية إلى سوريا.

الحيثية السابقة بالذات تدفع بعض المراقبين إلى تركيب سيناريو مفاده أن الحشد الأكبر لقدرات التنظيم المتطرف سيصبح في سوريا. وأن هذا الحشد قد يستهدف النظام، بالتزامن مع استهداف المعارضة، وذلك بغية تعزيز شعبية التنظيم في أوساط الغالبية السُنية المتضررة من ضربات النظام تحديداً.

لا يبدو أن السيناريو السابق غائباً عن أذهان منظريي نظام الأسد، فقد كانت لعضو مجلس الشعب السوري، شريف شحادة مداخلة ملفتة في إحدى التقارير الإخبارية، مفادها أن أمريكا قد تضغط على "داعش" في العراق بصورة تدفعه فيها للانتقال إلى سوريا، بغية تعميم القتل والفوضى في الجانب السوري، حسب شحادة.

رؤية شحادة تلك، والتي يبدو أنها ليست من بنات أفكاره بقدر ما هي إحدى السيناريوهات التي يجري البحث فيها داخل أروقة صناع القرار بدمشق. رؤية شحادة تلك، تتفق مع قراءات لمراقبين يعتقدون أن واشنطن تعتزم استنزاف نظام الأسد، تحديداً، باستخدام "داعش". خاصةً بعد الهزائم التي مُنيت بها قوات النظام في المواجهات غير المسبوقة مع "داعش" في الرقة منذ أكثر من شهر.

يعتقد الكثيرون أن الخطة الأمريكية لمحاربة "داعش" غامضة. وبعضهم يعتقد أنها تعبير عن تردد الرئيس الأمريكي. لكن آخرين يعتقدون أن واشنطن أظهرت ما تريد من جبل جليد مخططاتها، وسكتت عن الباقي. ورغم أنها لم تكذب في نواياها، إلا أن المسكوت عنه قد يكون بيت القصيد. والمسكوت عنه هو، كيف سيكون مشهد الحرب مع، وعلى، "داعش"، في سوريا، خلال الأشهر الطويلة، وربما السنوات، التي سيتطلبها تجهيز معارضة قادرة على الإمساك بزمام الميدان؟

واشنطن واضحة في أمور عدة، فهي لا تريد إسقاط النظام السوري بصورة كاملة، بل تريد إعادة تأهيله عبر تطعيمه بعناصر من المعارضة، بالتزامن مع خروج الأسد والمقربين منه من المشهد، العلني على الأقل. فواشنطن لا تريد للمنظومة الأمنية والعسكرية السورية أن تنهار كليةً.

والنظام السوري كان واضحاً تقريباً. لا حلّ سياسي إلا بقيادة الأسد.

واشنطن حاولت عبر مفاوضات جنيف أن تصل لحلٍ سياسي بالتوافق مع الروس، لكن يبدو أن موسكو خذلتهم. أو أنها كانت عاجزة عن القيام بالضغط الكافي على الرئيس السوري للخروج من المشهد.

بعد مفاوضات جنيف، كانت واشنطن واضحة. فهي تريد أن تدعم المعارضة السورية، بصورة تسمح للأخيرة أن تشكل تهديداً للنظام السوري، يدفعه للقبول بحل سياسي.

لم يتغير أي شيء. واشنطن اليوم تريد من "داعش" أن تقوم بهذا الدور. فهي ترسم حدوداً قسرية للتنظيم. عليه ألا يقترب من كردستان العراق، وهي الآن تساعد الأكراد على جبهة عين العرب "كوباني". لكن من غير المتوقع أن تتدخل واشنطن إذا تحرك التنظيم المتطرف باتجاه مواقع سيطرة نظام الأسد.

وهكذا يمكن لحرب استنزاف طرفيها الرئيسيين، "داعش"، ونظام الأسد، أن تندلع لأشهر، وربما لسنوات. حرب استنزاف ستجلب المزيد من مقاتلي حزب الله إلى أتُونها، مما يسعد إسرائيل بالطبع. وهي حرب استنزاف ستتطلب من إيران المتوعكة اقتصادياً المزيد من التمويل والدعم. في خضم هذا الاستنزاف قد يصل نظام الأسد إلى مرحلة الانكسار المطلوبة، أو يصل حلفاؤه إلى مرحلة القنوط من استمرار الدعم البشري والمالي المُقدم له وتكاليفه الباهظة عليهم. حينها قد يقدم نظام الأسد التنازلات المطلوبة. إن لم يحصل ما سبق، تكون الأشهر الطويلة، وربما السنوات، قد مضت بحيث باتت المعارضة "المعتدلة" المُعدة أمريكياً، بكفالة سعودية بالدرجة الأولى، قد أصبحت مستعدة. لن تدخل هذه المعارضة من الشمال. فالسعودية وتركيا ليستا في حلفٍ. ستدخل من الجنوب، فالطريق إلى العاصمة السورية من هناك أقصر.

ربما تقدم القراءة السابقة تفسيراً للغموض الذي يعتري الخطة الأمريكية في حربها ضد "داعش". وربما نكون مخطئين. لكن الهلع الذي يظهر من حين لآخر في لهجة مسؤولي النظام في دمشق يُنبئ، دون شك، أنهم يمتلكون الوقت، لكن بضمانات آنية فقط. بينما يُخفي المستقبل باقي جبل الجليد مما تُعده واشنطن للخارطة السورية.