القضاة
يضربون في العام 1955 لتحقيق مطالبهم ...
والمعلمون
يحفزون طلابهم للخروج في مظاهرات مطالبة بتحسين التعليم ...
مرت على سوريا في تاريخها
المعاصر سياسات وأنظمة وأفكار متعددة ومختلفة، ولعل سوريا ليست هي الدولة الوحيدة
فحسب التي تنوعت فيها السياسات والأنظمة....
فمثلها مثل أي دولة كانت
تعاني من تسلط القوة الخارجية المستعمرة ردحاً طويلاً من الزمن، وناضلت حتى نالت
استقلالها التام، ولكن مايجعل سوريا متميزة عن غيرها من الدول هو أنها الدولة التي
كلما طالت سنوات استقلالها كلما تراجعت للوراء سياسياً وثقافياً وجغرافياً.
لقد كان الجيل الأول من سياسيي
ما بعد الاستقلال، متمثلين بالأحزاب والكتل الوطنية العريقة كالكتلة الوطنية وحزب
الشعب وغيرها تؤمن كل الإيمان بأحقية الشعب بحكم نفسه بنفسه من خلال مؤسسات الدولة
الديمقراطية التي تؤمن الحرية لأفرادها في التعبير عن أنفسهم.
وهذا ما كان حقيقة في بدايات
عهد الاستقلال الذي ترافق مع وصول الرئيس شكري القوتلي والرئيس هاشم الأتاسي وغيرهم
للحكم في سوريا، فقد أصبح الشعب على درجة كبيرة من الوعي السياسي لدرجة أنه عرف
حقوقه وأساليب المطالبة بها، فكان حق الاضراب والاعتصام والتظاهر من الحقوق
المتلازمة مع المواطن السوري منذ نشأته الأولى وحتى وفاته.
وكثيرة هي الحالات التي كنا
نسمع بها بخروج المظاهرات المنددة بسياسة الدولة، والتي كانت تنطلق من ثانوية
التجهيز الأولى بدمشق وغيرها من التجاهيز، وتدور في أنحاء العاصمة دون أن يعترضها
أي شخص من رجالات الشرطة والأمن، ولم تكن تنفك عرى هذه المظاهرات (كما يقول الشيخ
علي الطنطاوي في مذكراته) حتى يخرج أحد الناطقين الرسميين من الحكومة بوعود أكيدة
لتنفيذ مطالب المتظاهرين.
لقد حاول رجالات الرعيل الأول
من ساسة البلد الوطنيين، أن يثبتوا للعالم أجمع أن سورية والسوريين ليسوا بحاجة
لدولة (وصاية) تدبر لهم أمورهم، فهم وشعبهم قادرين على الوصول ببلادهم إلى مصافي
الدول المتقدمة، وهذا ما كان في البدء في ظل الأنظمة السياسية التعددية، حيث لم تكن
الوظائف حكراً على أحد ولم يمنع إبداء الرأي وتقبل الآخر، وكانت الوسائل
الديمقراطية للمطالب هي السائدة، ما رسخ في العقول أسلوباً حضارياً في التعامل فيما
بين الدولة والمواطن.
والأمثلة على ذلك كثيرة، منها
مانشر في الصحف الصادرة في تلك الفترة، كجريدة العلم وجريدة الانشاء وغيرها من
الصحف والمجلات ...
حيث
جاء في خبر نشر على صفحة جريدة (الإنشاء) الصادرة عام 1954 أن القضاة سيضربون إذا
لم تتحقق مطالبهم، بزيادة الرواتب وتشميلهم بقانون الترفيه، والجدير بالذكر أن هذه
المطالب وخاصة من القضاة كانت تلقَ صدً كبير ليس في الحكومة فحسب بل في الأوساط
الشعبية لما كان معروف عن نزاهة القضاء في ذلك الحين، وضرورة تلبية مطالب القضاة
ليستمروا على مسيرتهم في القانونية النزيهة.
ومن
ناحية أخرى جاءت جريدة (العلم) الصادرة عام 1955 بخبر جديد يتحدث عن إضراب
المعلمين، والطلاب في مدارس دمشق وحماة وحمص، إذا لم تلب الحكومة مطالب التعليم من
كافة مستلزماته مما يتيح للطلاب تحسناً كبيراً في مستوى تعليمه ودراسته.
استمر الوضع في سوريا، بهذا
المستوى من الرقي في التعامل بين الدولة والحكومة، حتى لاحت الوحدة في الأفق، ودخلت
سورية في ظل الاستبداد لأول مرة مع توقيعها ميثاق الجمهورية العربية المتحدة في
العام 1958 تشبعت سورية وشعبها في ذلك الزمان معنى القمع والتعسف في استعمال
السلطة، مابدأ بخلق جيل جديد هجين من الشعب ليس له الرغبة بالمطالبة ولا بالحد
الأدنى من حقوقه ....
وتعزز ذلك التعسف والاستبداد في
استعمال السلطة، مع انقلاب الثامن من آذار 1963 الذي حمل البلد والشعب ما حمله، من
سياسات لم تكن معروفة سابقاً، أهمها سياسة الحزب الواحد الأوحد القائد للدولة
والمجتمع، والبدء بزرع الفتنة الطائفية التي لم تكن معروفة سابقاً بين أبناء الشعب،
وسياسة التوظيف من فئات معينة فقط في الدولة ما ألغى مبدأ تكافؤ الفرص الذي كان
سائداً فيما مضى، ومنه إلى إلغاء حق الشعب في التظاهر والإضراب والاعتصام.
ولعل أول نذير لمخاطر انعكاس
الاستغلال الطائفي على الشعب من قبل مراكز القوى في حكم الثامن من آذار، وبداية
استعمال الأسلوب القمعي في صد المظاهرات والإضرابات كان الاصطدام الذي وقع في مدينة
بانياس على الساحل السوري عام 1964 والذي تتلخص وقائعه بمايلي:
بعد مرور سنة على انقلاب الثامن
من شباط في العراق والقضاء على عبد الكريم قاسم، نزل عدد من البعثيين من الجبل
احتفالاً بهذه المناسبة، وأخذوا يهتفون هتافات طائفية (البعثية علوية) فتصدى لهم
اهالي بانياس، وجرت معركة بين الفريقين سقط على اثرها بعض القتلى والجرحى، وعندما
انتشر النبأ في الجبل تجمع جمهور من عشائره وتوجهوا الى مدنية بانياس ولما بلغوا
رأس النبع الواقع في ضواحي المدينة طلبت منهم قوات الامن الرجوع الى قراهم، وعندما
رفض فريق منهم الانصراف تم اعتقالهم، وقد اضربت المدينة اثر هذه الاحداث بينما
اصدرت السلطات بلاغاً القت فيه مسؤولية ما حدث على الآخرين:
"لقد ظهر من التحقيق ان فتنة
بانياس كانت مهيأة لبذر الشقاق الطائفي والمذهبي وقد شجعها عدد من محترفي السياسة
وزعماء العشائر والسياسيين التقليديين".
ومن الجدير بالملاحظة ان
المؤتمر القومي السابع الذي انعقد اثر هذه الحوادث لم يأبه لمعالجة هذا الموضوع
الخطير الذي لم يرد له اي ذكر في النشرة الداخلية التي صدرت نتيجة لهذا المؤتمر.
لقد ترافق الصدام الطائفي في
بانياس مع غليان شعبي عم جميع اتجاهات الشعب وفئاته الاقتصادية والسياسية
والاجتماعية، فقررت الفعاليات الاقتصادية بدمشق وحمص وحلب واللاذقية الاضراب
احتجاجا على سياسة حزب البعث الاقتصادية، وعندما دخل الاضراب يومه الثالث بدأت
دوريات الحرس القومي تطوف الشوارع وتحطم ابواب المحلات التجارية وتتركها مفتوحة دون
حراسة، وقد وصفت وكالة الصحافة المشتركة الوضع في دمشق كما يلي:
"بدأت جماعات الحرس القومي الذي
يحمل كل منهم مخلاً ومنشاراً بفتح أبواب المخازن في قلب دمشق اليوم، وقد تحدى معظم
اسواق دمشق الحكومة باستمرار بالاضراب، كما استمر في المدن السورية الأخرى، وقد
ظهرت دلائل ازدياد النقمة الشعبية بانضمام المحامين الى الاضراب ...."
بعد أن تمسك الشعب السوري
بمطالبه، وتمسك التجار باضرابهم، نزل الجيش الى الشوراع، وكان اللواء امين الحافظ
قد اصدر بتاريخ 30/4/64 بصفته الحاكم العرفي هذا الانذار:
مادة أولى- تصادر محتويات كل
محل عام يقوم بتأدية خدمات مأجورة للجمهور او بتعاطى اعمال البيع او الشراء لكافة
اصناف التجارة وتؤول ملكيته للدولة مع كافة التزامات المالك تجاه الغير وذلك اذا
وجد المحل مغلقا بلا مبرر قانوني، كما يحال مالكه الى المجلس العرفي العسكري بتهمة
التخريب والاخلال بالامن وزعزعة الثقة العامة.
مادة ثانية- يجري جرد محتويات
المحلات المصادرة حسب القواعد والاحكام القانونية المعمول بها وبواسطة لجان خاصة
جرى تأليفها لهذه الغاية.
مادة ثالثة- يستمر المستخدمون
والعمال العاملون في المحلات المصادرة فيتقاضون تعويضاتهم المكفولة وأجورهم أو
رواتبهم من خزينة الدولة مع ضمان المكافآت التي ستقرر لهم بوصفهم عمالاً في مؤسسات
تعاونية.
مادة رابعة- يحال للمجلس
العرفي العسكري كل شخص يقوم بتهديد الغير أو يدفعه لإغلاق محله بأي وسيلة من
الوسائل بشكل مباشر أو غير مباشر، وكل شخص يحرض على الاخلال بالأمن أو الشغب، مع
مصادرة املاكه وأمواله المنقولة وغير المنقولة.
مادة خامسة- ينشر هذا الامر
العرفي ويعتبر نافذا من تاريخ صدوره.
وقد انتهى اضراب دمشق بعد ساعات
من صدور هذا الامر العرفي.
وهكذا تنقلت سورية في عصرها
الحديث من مكان إلى مكان، من حضن الديمقراطية ووسائلها السلمية، إلى حضن القمع
والاستبداد، الذي أوصل البلد اليوم إلى ماهي عليه.
ولعل هذا الجهل والدمار الذي
نراه اليوم، هو نتيجة لتلك السياسات القمعية، التي جهلت الشعب ومنعته عن معرفة
الشكل الصحيح للمطالبة بحقوقه، فضحكت وسائل الإعلام الرسمية قبل غيرها من جهله وعدم
إلمامه بتفاصيل يجب على أي مواطن مهما اختلفت رتبه معرفتها والإلمام بها.
وتبقى سوريا (ربما) هي الدولة
الوحيدة في العالم، التي بدأت من الأعلى بثقافتها وتطورها وتطور أبنائها، وبدأت
تتراجع للوراء سنة تلو الأخرى ....