إبراهيم حميدي
مرة أخرى، حسم الرئيس باراك أوباما الجدل داخل المؤسسات الأميركية ومع حلفاء أميركا
في المنطقة: الأولوية هي لمحاربة تنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش) في العراق. ولن
يقدم في سورية على أي تصعيد عسكري ممكن أن يضع أعناق القوات الأميركية الموجودة في
العراق تحت السيف الإيراني وأن يهدد التعاون القائم لتحجيم «داعش» في العراق. وليس
بصدد اتخاذ أي خطوة استفزازية تؤثر في المفاوضات الجارية مع إيران إزاء الملف
النووي.
بوضوح، أبلغت إدارة أوباما الحلفاء بأن المقاتلات
الأميركية لن تقوم بتوجيه ضربات مباشرة أو «ملتبسة» لمراكز النظام السوري. بل إنها
ذهبت أبعد من ذلك بأنها «مررت» عبر البوابة الإيرانية – العراقية معلومات عن موعد
بدء الغارات. ذهبت إلى القول إنه «ليس من المصلحة حالياً إسقاط النظام»، لكن في
الوقت نفسه لن تنخرط الإدارة الأميركية سياسياً معه. وبالتالي، فان «التسلسل» الذي
يعمل عليه أوباما ومستشاروه، كالآتي: «العراق أولاً»، «داعش أولاً»، «بقاء النظام»،
ثم «التفرغ» له والضغط عليه للوصول إلى حل سياسي.
تحول الخطاب السياسي الأميركي من المطالبة بـ
«تنحي» الرئيس بشار الأسد وأن «أيامه معدودة» في نهاية في صيف إلى ٢٠١١ إلى شرط
«التنحي» قبل بدء المرحلة الانتقالية. ومن أن الأسد «ليس جزءاً من المرحلة
الانتقالية» إلى أنه «لن يكون جزءاً من مستقبل سورية» أو أن «الشعب السوري لا يمكن
أن يقبل به مستقبلاً» و «لا مستقبل له».
استقرت السياسة حالياً إلى دعوة وزير الخارجية جون
كيري قبل أيام إلى ضرورة أن «يأخذ الأسد مصلحة شعبه بالاعتبار»، وإن كانت الناطقة
باسم الخارجية جينفر ساكي أعلنت أن الموقف «على حاله» من أن الأسد «فاقد للشرعية
وعليه الرحيل» رداً على تصريح- اختبار المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا من أنه
«جزء من الحل.... لوقف العنف».
كان النقاش مفتوحاً في واشنطن ومع حلفاء أميركا حتى
نهاية العام الماضي. اتفق الأتراك والفرنسيون على خطط تفصيلية لإقامة «منطقة حظر
جوي» شمال خط عرض ٣٥.٥ في شمال سورية و «مناطق آمنة» قرب الحدود السورية - التركية
تكون عبارة عن جزرة محمية بقوات أمن وجيش المعارضة على الأرض وبغطاء جوي دولي.
وحصلت أنقرة على دعم الجانب الفرنسي بعد زيارة الرئيس رجب طيب أردوغان إلى باريس في
الخريف الماضي. كما أن مسؤولين أمنيين وعسكريين أتراكاً وفرنسيين وأميركيين ناقشوا
جميع التفاصيل الفنية للخطة المزدوجة. بل إن منسق التحالف الدولي - العربي ضد
«داعش» الجنرال جون آلن، الذي يقدم تقارير دورية مباشرة لأوباما، وافق على مشروع
للمناطق الآمنة والحظر الجوي.
وتضمنت الخطة سيناريوات مختلفة، بينها تقسيم
الأجواء السورية إلى ثلاثة مستويات: منطقة احتكار لطائرات التحالف الدولي - العربي،
منطقة تحلق فيها مقاتلات التحالف وترد على أي هجوم، ومنطقة تحلق فوقها المقاتلات
لتحمي عناصر «الجيش الحر».
رفعت الاقتراحات إلى أوباما، فكان الجواب: لا. لم
تكن أول «لا» تأتي من البيت الأبيض على اقتراحات مستشاريه ومسؤولي مؤسسات إدارته.
هذه الـ «لا» كانت سبباً في تقاعد مسؤولين كبار في إدارته خلال السنوات الماضية.
كما حصل في خريف عام ٢٠١٢ عندما رفضت اقتراحات مسؤولين سياسيين وعسكريين بتسليح
«الجيش الحر». كان ذاك الرفض سبباً بين أسباب أخرى لاستقالة الوزيرة هيلاري كلنتون.
والرفض الجديد كان بين أسباب استقالة وزير الدفاع تشاك هيغل الذي أشار إلى مذكرة
خطية إلى أوباما من أن غارات التحالف «ربما يستفيد» منها النظام السوري.
الأمران الجديدان اللذان «سمح» بهما أوباما على
مضض: زيادة موازنة وإمكانات البرنامج السري الذي تديره «وكالة الاستخبارات
المركزية» (سي آي أيه) بأكثر من 500 مليون دولار أميركي تضاف إلى بليون ونصف
البليون دولار، لرفع عدد المتدربين ونوعية السلاح الذي يقدم إلى مقاتلي المعارضة،
مع تركيز واضح على غرفة العمليات في الأردن و «جبهة الجنوب» قرب حدود الأردن
الخالية من «داعش» أكثر من «جبهة الشمال» قرب حدود تركيا التي تتسم بـ «الفوضى»
ووجود قوي لـ «داعش» و «جبهة النصرة» أدى إلى تجميد تسليم أسلحة أميركية، مع
إمكانية اختيار فصيل جديد لاستئناف هذا الدعم. الأمر الثاني، هو المضي قدماً في
البرنامج العلني الذي تديره وزارة الدفاع (بنتاغون) بموازنة قدرها نصف بليون دولار
لتدريب خمسة آلاف «مقاتل معتدل» سنوياً في السنوات الثلاث المقبلة.
الجنرال الأميركي مايكل كي ناغاتا المشرف على
برنامج وزارة الدفاع قام بجولة في أربع دول عربية ومجاورة لسورية لتجهيز الوثائق
والأرضية لتنفيذ البرنامج. تتضمن الخطة إقامة أربعة معسكرات في تركيا والأردن وقطر
والسعودية استناداً إلى تفويض الكونغرس الذي تضمن عنصرين يتعلق أولهما بتدريب عناصر
معتدلة لمحاربة «داعش» مع توفير إمكانات «دفاعية» لهم ضمن استراتيجية أوسع لمحاربة
تنظيم «الدولة»، فيما يتضمن العنصر الثاني في التفويض الضغط للوصول إلى «حل سياسي»
في سورية.
لم يتضمن التفويض مباشرة أن تدخل هذه القوات في
مواجهات مع القوات النظامية. لكن ناغاتا، إلى الآن، يشترط لـ «النجاح في المهمة» أن
تعطي هذه القوات المتدربة «صلاحيات هجومية»، ثم يسأل: «ماذا تفعل المقاتلات
الأميركية لو تعرض مقاتلو المعارضة الذين دربتهم أميركا لغارات من الطائرات
السورية؟».
إلى الآن، لم يقدم أوباما ومستشاروه جواباً واضحاً
عن هذا السؤال. لكن ناغاتا يريد الجواب قبل انتشار هذه القوات في الأراضي السورية
لمحاربة «داعش». وحصل في المقابل على «صلاحيات قيام هذه القوات بالدفاع عن نفسها من
أي هجوم» سواء كانت عناصر «داعش» أو القوات النظامية وإمكانية أن تحصل هذه القوات
على «مساعدات طبية أميركية» الأمر الذي لا يتحقق في البرنامج السري لـ «سي آي أي»،
إضافة إلى «تسليح نوعي وثقيل».
ومن المقرر أن يبدأ نهاية الشهر المقبل برنامج تدريب أول دفعة من «المعارضة
المعتدلة» وقوامها حوالى مئة مقاتل على يجري تدريب ثلاثة ألف مقاتل قبل نهاية العام
الحالي و٥٤٠٠ في العام المقبل، من قبل مدربين أميركيين وبريطانيين وآخرين. ويُتوقع
أيضاً، أن يجري بدء نشر هذه القوات المتدربة في مناطق «داعش» في شمال سورية في أيار
(مايو) المقبل.
هكذا لخص مسؤول غربي المشهد السوري الأليم من شرفة
البيت الأبيض. ويضيف، بأن إدارة أوباما ترى أن البرنامجين، السري والعلني، سيؤديان
بهذه الإمكانات المالية والعسكرية خلال سنة أو سنتين مرفقين بانخفاض أسعار النفط
إلى «الضغط على النظام» وحلفائه في موسكو وطهران، من أنه، ليس هناك حل عسكري للنزاع
وأنه «لا بد من الوصول إلى حل سياسي وتشكل هيئة حكم انتقالية تمثيلية للمكونات
السورية».
ما لم يقله هذا المسؤول، أنه بعد كل من حصل في
سورية خلال السنوات الأربع، فإن سورية لم تعد مهمة في ذاتها، بل باتت ساحة للصراع
الغربي مع إيران ومسرحاً لـ «استنزاف» إيران وحلفائها وملعباً للصراع الإقليمي
وأداة ضغط لمفاوضات ديبلوماسية تحت قعقعة السلاح إزاء الملف النووي والدور الإقليمي
لإيران طالما أن أوباما يرى أن الصفقة النووية «تاجاً» يريد أن يضعه على رأسه في
نهاية عهده ليدخل التاريخ.
خير دليل، أن إيران قررت أن تقود بنفسها «معركة
الجنوب» السوري قرب الجولان المحتل والأردن للضغط في ملفين: أمن إسرائيل وأمن
الخليج.