سامي كليب
أفكر في بعض المرات في أن أهجر
هذه المهنة. أراها سقطت في مستنقع الفتن. صارت مطية لسياسات حاقدة. تمترست خلف دول
ومشاريع ورؤوس أموال تقاتل بعضها بعضاً. انعدمت فيها الثقافة والمعرفة. استسهل
الزملاء الاطلالة على الشاشات او عبر الاذاعات والصحافة المكتوبة ووسائل التواصل
الاجتماعي. فقدنا الصدقية والصدق والموضوعية، بينما العالم يُعدُّ لوطننا العربي
الجريح خرائط تُرسم بدماء أهلنا.
هل يعقل ألا نجد وسيلة اعلامية
واحدة تحترف المهنة وتحترمها؟ هل مطلوب منا، فعلاً، أن نكون مطية لهذا المشروع أو
ذاك لكي نستمر؟ هل من الصعب فعلاً ألا نكون لا مع السعودية ولا مع ايران ولا مع
المستقبل ولا مع حزب الله، ولا مع الاخوان ولا مع السيسي، ولا مع المعارضة ولا مع
الأسد، ولا مع أميركا ولا مع روسيا؟
بين الحياد والموضوعية فرق
كبير. ليس مطلوباً من الصحافي أن يكون محايداً. مطلوب أن يكون موضوعياً. لا يمكن ان
نرى اهلنا في فلسطين يُسحقون ونصمت، ولا أهلنا في العراق وسورية واليمن وليبيا
يُنحرون بسيف الارهاب وسيوف المشاريع الاخرى ونصمت، ولا أن نرى طفلاً صومالياً
يتضوَّر جوعاً وفقراً ونسكت، ولا أن نشاهد مكوّنات هذا الوطن الكبير من اشوريين
وسريان وكلدان وازيديين وكرد ومسيحيين (والملقبين جهلاً بـ «الاقليات») يعبرون
الحدود هرباً من ظلامية الجهل ونصمت، لكن، للمهنة قواعدها وحرفيتها واسسها. لو
التزمناها، لربما كنا أكثر فائدة من المدح والقدح.
ليس دورنا، نحن الصحافيين، ان
نحتل الشاشة لنشتم هذا ونمدح ذاك. فكيف اذا كان المادح والشتَّام قد غيّر جلده
مراراً، فصار اليوم يشتم من كان يمدحه بالأمس او يمدح من كان يشتمه بالامس. وليس
دورنا ان نقرأ كالببغاء ما تكتبه الصحافة الاجنبية لنؤكد مقولة او ننفي اخرى. وليس
دورنا ان نكتفي بالاعتماد على وكالات انباء عالمية يتمركز جلها في دول الاطلسي التي
كلما قررت معالم التاريخ، شوّهت معالم الجسد العربي. ولا دورنا ان نعتمد كتابي
«صراع الحضارات» و»نهاية التاريخ» لهنتغتون وفوكوياما كتابين مقدسين، بينما في
وطننا العربي من كتب افضل منها (المهدي المنجرة مثلا، او ادوارد سعيد...).
بات الجهل سمة ملازمة للكثيرين
منا. أتحدى أن يكون 90 في المئة من عارضي وعارضات الازياء والمفاتن على الشاشات (اي
مذيعو العصر الحديث)، قد قرأوا كتاباً واحداً عن قضية يعالجونها. أتحدى أن يعرف
أكثرهم اسم قبيلة في اليمن او ليبيا، أو يعرف الفرق بين جبال الاطلسي الرائعة في
المملكة المغربية وحلف شمال الاطلسي، أو ان يدرك من هم بنو حسان الموريتانيون،
الذين بفضلهم صمدت الاندلس قروناً طويلة. لا بل ان يعرف موقع موريتانيا نفسها، او
مكان قرية في سوريا من تلك التي يستعرضها كل ليلة. الجهل يقتلنا فنُساهم في قتل
واقعنا.
هل ثمة قيادي او رئيس او أمير
او ملك او مؤيد او معارض واحد منزَّه عن الخطأ؟
ما من موضوعية مطلقة في
الاعلام، لا الغربي ولا العربي، ولا أي اعلام آخر، لكن ثمة موضوعية نسبية. يقول بعض
الزملاء المصريين «لقد ذُبحنا، فلا تطلبوا منا ان نكون محايدين»، ويقول بعض الزملاء
السوريين «نحن في حال حرب ودورنا ان نساهم في نصرة الجيش»، ويقول الزملاء في قناة
«الجزيرة»: «لولانا لما انتصرت ثورات»، ويقول زملاء في «العربية»: «كنا مع حزب الله
وحماس حين قاتلا اسرائيل، لكننا لسنا محايدين حين يتورط الحزب في القتال في سورية،
وحين تصبح حماس جزءاً من الاخوان المسلمين ضد بعض الدول العربية»...
ليس مطلوباً من الصحافي الا
يحبّ ولا يكره. هذا حقه. هو انسان كغيره، لكن الشاشة والاذاعة والصحيفة مسؤولية
امام المهنة والتاريخ والحاضر والمستقبل. لن يغفر لنا أحد لو ساهمنا في سفك دم، او
عمّقنا هوة الفتنة المذهبية، او صرنا متراساً لسياسات قاصرة ومشاريع متضاربة وسط
بحر من الخرائط والدماء والدموع. حين يذبح الارهابي يجب ان نشرح، وحين نسمع عن
براميل متفجرة يجب ان نحقّق. المعلومة هي الأساس. المشاهد هو الذي يحكم.
كلنا أخطأ، لكن نسبة الخطأ هي
الاساس. في كل الصحف كتّاب محترمون وآخرون شتّامون. أجمل المقالات هي تلك التي
يكتبها خصمك فينتقد باحترام ويُسند انتقاده بالمعلومات. هذا يفيدك أكثر من كاتب او
مذيع قريب يمدحك فيضلّلك.
لماذا حوّلنا الفضائيات العربية
والاذاعات والصحف ساحة «دواعش» اعلامية تذبح العقل والفكر والمنطق، تماماً كما يذبح
«داعش» على الأرض؟ لماذا انزلقنا الى هذا الدرك من انعدام الاخلاق المهنية
والانحطاط الفكري والارتخاء النفسي امام المال؟ أين اصبحت شرعة الاعلام وحقوق
الانسان ومبادئ المهنة ؟ لماذا هجرنا قضايانا العربية وغرقنا في وحول التقاتل.
لماذا نرسم فخاخاً بعضنا لبعض، بينما أعداء هذه الأمة يفرحون لقتالنا، وينصبون لنا
الفخاخ، ويسخرون من غبائنا، ويتفننون في رسم خرائط مستقبلنا.
ربما بدا بعضنا أقرب إلى هذا
الطرف أو ذاك في خلال السنوات الخمس الماضية، منذ انطلق ما يُسمى «الربيع العربي».
لعل الواقع انصف بعضنا. فقد تبين فعلا ان الربيع كان مطية قتل الثوار الحقيقيين
الذين انتفضوا لتحسين اوضاع بلادهم، قبل ان يقتل الآخرين، وقتل المعارضات قبل ان
يقتل السلطات لأنها قبلت ان تسلم مشاريعها لمن هم أصلاً ضد هذه المشاريع، وتبين
فعلاً أن الأسد لم يسقط لأن الجيش سيقاتل، ولأن حلفاءه لن يتركوه مهما بلغ الثمن.
وتبين ان الاخوان المسلمين لن يصمدوا. من كتب مثل هذا الكلام سابقاً، وأنا منهم،
كان يُتهم بأنه أقرب إلى طرف من طرف آخر، لكننا كتبنا معلومات، لا قدحاً ولا ذماً.
كلنا في نهاية المطاف نخطئ، لكن ان تخطئ بالتحليل شيء، وان تعرف انك تكذب وتكتب شيء
آخر. كلنا خاسرون، حتى لو اختلفت نسبة الخسارة.
نحتاج الى ربيع اعلامي حقيقي.
ربيع تزهر فيه مجدداً اخلاق المهنة وموضوعيتها. ربيع تصحو معه الضمائر، فنعمل على
رأب الصدع، وعلى التقريب بين القلوب، وعلى رفع مستوى الوعي، وعلى تجنيب أوطاننا
مآسي ودماء ودموعاً اضافية .
من يقرأ مجلدات ووثائق
الخارجيات البريطانية والاميركية والروسية والفرنسية والالمانية، المفرج عنها في
السنوات الاخيرة، فسيدرك اننا جميعاً نكرر خطأ التاريخ. هكذا كان حالنا حين تقاتلنا
بينما خرائط سايكس بيكو تُرسم، وهكذا كان حالنا حين احتُلت فلسطين بغفلة، واحتل
العراق بكذبة، وقُسّم السودان بلعبة، وهذا كان حالنا حين ضحكوا علينا بأن الاستقلال
آتٍ لو قاتلنا مع الحلفاء ضد الالمان، كانت النتيجة انهم استبدلوا النير العثماني
بنير فرنسي ــــ بريطاني، ثم اميركي. كنا ولا نزال وقوداً لصراعات الدول وثمنا
لتفاهمها، اصبحنا هنوداً سمراً بدلا من الهنود الحمر.
يا صحافيي العرب، استيقظوا.
وأنا اول المعتذرين لو أخطأت.