والقوتلي
يدعو السوريين إلى التمسك بالحرية التي أفنوا حياتهم دفاعاً عنها ....
في كل بلد تظهر أيام عظام، لها
ذكرى لاتنسى ولا تمحى من الذاكرة، وكم هو عظيمٌ أن تحتفل البلاد من أقصاها لأدناها
بتاريخ استقلالها عن مستعمرٍ جثم على أرضها لأكثر من عشرين سنة.
سنواتٌ عجاف أرهقت سوريا، ستة
وعشرون عاماً من الاحتلال ومن النضال المتواصل، النضال على كافة مستوياته سواءاً
أكان نضالاً سياسياً أو نضالاً مسلحاً ضد أي وجود للاستعمار الفرنسي على الأراضي
السورية.
وفي السابع عشر من نيسان من
العام 1946، كان تتويج النضال السوري، ومكافئة لكل السوريين صغيرهم وكبيرهم نسائهم
ورجالهم بجلاء المستعمر الفرنسي عن سوريا، فكيف كان الاحتفال بهذا اليوم العظيم ...
جاء في تقرير للصحفي (توفيق
الحكيم) ونشرته صحيفة (أخبار اليوم) المصرية صورة للاحتفال العظيم الذي عمَ العاصمة
دمشق في احتفالها بعيد الجلاء، وننقل لكم ما جاء في التقرير:
" رأت جريدة (أخبار اليوم) بمناسبة الجلاء عن سورية أن توفد الاستاذ توفيق الحكيم
لشهود عيد الجلاء الفرنسي عن سوريا، وكذلك أوفدت مصورها الخاص ليسجل حفلات الجلاء
...
وبالفعل طار توفيق الحكيم إلى دمشق بطائرة حربية مصرية كانت متجهة إلى دمشق مع 20
طائرة أخرى لتشارك شقيقتها سورية بأفراح الجلاء .
يقول الصحفي توفيق الحكيم :
هكذا صعدت إلى الطائرة الحربية
وبهذا الإحساس تجرأت واتخذت مكاني بين الطيارين المصريين كأني ريشة في أجنحة
النسور.
كانوا نحو عشرين بملابسهم
الرسمية الزرقاء بلون السماء كل منهم يقود طائرة مقاتلة من طراز (سبتفاير)، وبقينا
محلقين في الهواء حتى هبطنا في مطار المزة فوجدنا بالانتظار دولة سعد الله الجابري
رئيس الوزراء فما كاد يراني حتى قال لي : وأين حمارك ؟؟؟
فقلت له على الفور : أوفدته
ليشيع المحتل الراحل بما يناسب المقام.
وسرنا في العاصمة المظفرة
المحتشدة بوفود الدول العربية وقد هرعت من كل فج عميق لتفرح وتشارك بالفرح. إن
الوحدة العربية لوحدة قلوب، بل إنها قلب واحد في مجموعة أعضاء، كان عيد دمشق هو عيد
العرب ولقد رأيت في عيون الوفود ذلك البريق والاشراق والبشر والفخر .
استيقظت في الصباح وكانت الساعة
السادسة صباحاً، فقررت الخروج لتنشق الهواء، ولكني تعجبت عندما رأيت أن المدينة
كلها مستيقظة، وقد ارتدت أجمل حلة من أزهارها، وضعت الأصص الرائعة أمام البيوت
والحوانيت وخيمت على الكراسي الموصوفة فوق الأفاريز، وأعلام الدول العربية وراياتها
وبنودها قد نشرت خفاقة هفافة في كل مكان ...
والناس في ثياب العيد قد تراصو
منذ الآن في الشرفات والطرقات وفوق الروابي والأعالي وأسطح البيوت، وأنغام الموسيقى
تعزفها فرق الجنود أو جماعات الكشافة تنتقل من شارع إلى شارع، واناشيد البنين
واهازيج البنات يهتف بها التلاميذ والتلميذات، تلك أمة مجاهدة جريحة لاتدري ماذا
تصنع من الفرح وقد طرح عنها نير الظلم وشلت يد الاستعباد ...
وفي الساعة التاسعة والنصف بدأ
الاحتفال الرسمي، ويقام ذلك الاحتفال الكبير في شارع فاروق الأول، وهو من أفخم
شوراع دمشق ...
ذهبنا وجلسنا في أماكنا إلى أن
أقبل فخامة رئيس الجمهورية وبدأ العرض العسكري، بين أمواج الجماهير الزاخرة
المتلاطمة وعناقيد الناس المدلاة من المآذن والشجر وأعمدة المصابيح وأسوار الأبنية
وأجراس الكنائس.
وسار في أول الموكب ثلة من
جنود الدول العربية تحمل أعلامها مجتمعة يتوسطها العلم السوري (الأخضر والأبيض
والأسود ذو الثلاثة نجمات) فاستقبلته الجماهير بالتصفيق الحاد ....
وتتالت وحدات الجيوش العربية من
سورية وعراقية ولبنانية وسعودية وشرق الأردن بقبعاتها وخوذها وقلانصها فصفقت لها
الناس بحرارة ...
لقد كان المنظر رائعاً ومهيباً،
رؤية الجيوش العربية تسير سيرة الرجل الواحد، تحتفل بانتصار دولة عربية كانه
انتصارها، تبادلت لأذهاني ماذا لو توحدت الجيوش العربية تحت تسمية (جيش الوحدة
العربية) وجعله ضمان لاستقلال الدول العربية والزود عنها ضد أي عدوان ؟؟؟؟ وانتهت
خواطري هذه عندما بدأت المدافع تطلق من القلاع المحيطة بدمشق ابتهاجاً بالعيد ...
وبانطلاقها نودي بالتكبير على المآذن ودقت أجراس الكنائس، ثم رعدت بالجو أصوات
المحركات من الطائرات المصرية والعراقية وهي تذرع بالسماء بهزيمها المجلجل فوق مكان
الاحتفال .
وانتهى الاحتفال بمثول
المحافظات والأقاليم بين يدي رئيس الجمهورية فخامة شكري بك القوتلي، يحمل كل منهم
حفنة من تراب إقليمه، يسلمه إليه رمزاً للولاء وطلب الرعاية وسؤالاً للعهد بأن يصون
الوطن .
ثم اتجهت الجموع بعد ذلك إلى
قلعة المزة حيث رفع العلم السوري وسميت باسم الشهيد الوطني "يوسف العظمة" كما سميت
قلعة اخرى باسم سلطان باشا الاطرش .
مادقت الساعة الرابعة حتى دوت
شوارع دمشق بابواق الميكروفونات تذيع خطاب الرئيس شكري بك القوتلي فوقفت الجماهير
تصغي في سكون ولو أن ابرة القيت على أديم الطريق في وسط ذلك الزحام الصاخب لسمع
وقعها وحدها فقط مع صوت شكري بك القوتلي وهو يصيح في ذلك الشعب المحرر ...
" اننا نطوي اليوم صفحة الجهاد
في سبيل استقلالنا لنفتح صفحة الجهاد لصيانته، وجعله واسطة لاستعادة الامة ورقيها،
وقد تكون صيانة الاستقلال أشق من الظفر به ... إن مثلنا الأعلى الذي نتطلع إليه
ليدعو اليوم أبناء هذه الأمة إلى التجرد عن الهوى والترفع عن الصغار وايثار المصلحة
العامة على الخاصة "
ماذا بعد الحرية ؟؟؟
وقد سألت رئيس الحكومة السورية
هذا السؤال فأجابني : الحرية ليست غاية في ذاتها إلا يوم تفتقد، أما متى ما وجدت
فهي وسيلة يجب أن يحسن استخدامها وأمام سوريا مشروعات إصلاحية واقتصادية وعمرانية
واجتماعية قد تشبع بضرورتها الرأي العام.
أخبار اليوم 20/4/1946
لقد ابتليت سوريا بالمصاعب
والمحن، منذ ولادتها إلى اليوم، عانت ما عانته وخسرت ما خسرته، إلا أن الحقيقة
الوحيدة التي تبقى ماثلة لنا نحنُ السوريين، أنهُ مهما طالت المعاناة ستنتهي، ومهما
طالت غمامة الظلمِ والقمع، سيأتي اليوم الذي تنقشعُ به دون رجعة، وليكنْ صبر
أجدادنا الأوائل ونضالهم الطويل أفضل صورة نعود لها كلما شعرنا باليأس من الخلاص من
هذا الواقع المؤلمْ.