ثائر ديب
تصاعدَ طلبُ التدخّل العسكري
الخارجي لدى قطاعات من المعارضة السورية مع اشتداد عنف النظام حتى بات، لدى كثيرين،
أمراً مقبولاً بل طبيعياً ولا بدّ منه. وبين هؤلاء الذين لا يكادون يقبلون النقاش
في أحقيّة طلب التدخل العسكري الخارجي وضرورته وآخرين في المعارضة وخارجها لا
يقبلون النقاش في رفضه وتخوين من يؤمن به، تبقى ضرورة وضعه موضع البحث والتأمّل
الموضوعي الذي لا تحركه المصالح ولا حتى الآلام وحدها.
لعلّ بمقدورنا أن نعيد الظهور
الصريح لطلب التدخل الخارجي في منطقتنا إلى الحالة العراقية، إبّان احتلال الكويت،
في فترة شهدت أيضاً انهيار الكتلة السوفياتية وبروز مظاهر العولمة وأشكال تناقضها
مع الدولة الوطنية. يومذاك، ظهرت أصوات، غالباً ما سبق لها أن كانت يسارية، وراحت
تبرّر التدخل الخارجي بمنطقٍ فقير التأسيس والتأثيث، يكاد يقتصر على إبراز ضرورة
الخلاص من أنظمة مستبدّة مسلحة حتى أسنانها ومدعومة من أطراف خارجية بحيث يستحيل
الخلاص منها بالقوى الذاتية لشعوبها. وسوى آلام الاستبداد والقمع الوحشيين، لم يكن
ثمة أساس لهذا المنطق يتعدّى القول إنّ العالم أصبح قرية كونية واحدة لا يمكن أن
تترك لطرف فيها أن يُدْخِل الخلل والنشاز إلى انسجامها المترابط في ظلّ الليبرالية
الظافرة؛ وإنَّ توسّع هذه الليبرالية الأميركية الأوروبية اليابانية خارج حدودها
ينطوي على نشرٍ للتقدم والديموقراطية وخلاصٍ من الاستبداد والتخلف بضربة واحدة، من
دون أيّ تساؤل عمّا إذا كانت هذه الليبرالية وسوقها الاقتصادي العالمي هي المصدر
الأساس للخلل، ومن دون تقديم أيّ مثال كان فيه الاحتلال مصدراً لأيّ تقدّم خلال
قرون الاستعمار المعاصر وإلى الآن.
باختصار، غالباً ما اتسمت ذرائع
طلب التدخّل بالترخّص النظري والسياسي، مقتصرةً على استغلال الألم بعيداً عن أيّ
تحليل جدّي لبنى العالم الحالي وعلاقات القوة فيه ولتاريخ تدخّلاته وتمايزاتها،
واتّسامها في العالم الثالث بمزيد من الخراب والموت بحجة التخلص من الخراب والموت.
هكذا، كنا أمام أشتات أطروحات نابعة من اليأس والألم وردّة الفعل كأطروحة «الصفر
الاستعماري» التي طلع بها معارضون سوريون ولا تستند في تبريرها إلا على فكرة واهية
تضرب في الغيب مفادها أنّ الخلاص من الاحتلال الخارجي الاستعماري أسهل من الخلاص من
الاستعمار الداخلي الذي تمثّله الأنظمة المستبدة. وبالطبع، فإنَّ مثل هذا المنطق،
أو غياب المنطق بالأحرى، غير جدير بأي نقاش جدّي، ويمكن ترك تفنيده المفصّل لأولاد
المدارس الصغار. والأفضل، بغية الفهم والتدقيق وصقل الموقف من التدخل الخارجي، أن
نلجأ إلى النقاش مع منطق أكثر قيمة وجدارة بهذا الصدد.
كانت حركة التنوير الأوروبية في
القرن الثامن عشر قد أَعْلَت من شأن فكرة «الكونية» والقيم الإنسانية الجامعة
وأقامتها على أساس متين هو الطبيعة الإنسانية المشتركة؛ فرأت أنَّ اشتراك البشر في
الطبيعة الإنسانية السامية يقتضي أن تكون لهم مطالب سياسية وأخلاقية بعضهم تجاه
بعض، كي ينعموا بما هم جديرون به من حرية وسعادة وعدل، لأن مثل هذه المسائل أهم
وأخطر من أن تُتْرَك لرحمة ما هو محلّي ولنزوات الأسياد والطغاة وأهوائهم. وإذا ما
كان صحيحاً أنَّ هذه الفكرة ارتبطت بالطبقة الوسطى البرجوازية الغربية البيضاء
والذكورية التي انتهكتها أيما انتهاك في الداخل والخارج ولم تمنح الاحترام المتساوي
للجميع (العمال، النساء، غير الأوروبيين، الفلاحين الفقراء...)، إلا أنّ حرية
الجميع صارت مهمة في النظرية على الأقل. وكان هذا تقدماً ضخماً، وصار بمقدور أولئك
الذين قمعهم مجتمع الطبقة الوسطى أن يواجهوه شاهرين في وجهه منطقه هو نفسه، وقد
أمسكوا به في حالة من التناقض بين ما يقول وما يفعل. وهذا شكل من النقد أمضى على
الدوام بالمقارنة مع ذلك الشكل الذي يعمل على تقويم النظام الاجتماعي ونقده قبالة
قيم لا يُعتَرَف بصحتها.
بعبارة أخرى، يبقى هذا المذهب
الكوني، الذي يرتّب مطالب للبشر كلّهم تجاه البشر كلّهم، سلاحاً فكرياً وأخلاقياً
وسياسياً ماضياً في مواجهة لا الطغاة المحليين فحسب بل في مواجهة الاستغلال
الأوروبي والأميركي للعالم أيضاً، إذ يمسك بهذا الأخير وهو ينتهك في الممارسة ما
يدّعيه في النظرية. ولذلك ليس من الحصافة ولا من السهولة النظرية ولا الأخلاقية أن
يُرفَض كلّ تدخل للبشر في شؤون البشر رفضاً مطلقاً ودائماً. ومن الضروري الدفاع عن
الكونية في وجه ممارسات الطغم المحلية المتوحشة التي تحتمي بالخصوصية وبأشكال بائسة
من الوطنية تكاد تقتصر على الفتك بشعوبها ومعارضاتها، كما هو من الضروري الدفاع
عنها في وجه ضواري العالم الكبار الذين لم يفعل تدخلهم الأناني المُغرِض في أرجاء
هذا الكون سوى دفع مناطقه الفقيرة مزيداً من الدفع في مهاوي الدمار والخراب البنيوي
والخروج من التاريخ على كلّ الأصعدة، على نحو ما نجد في العراق والصومال وليبيا
وسواها الكثير.
ما يعنيه هذا هو أنَّ العالم،
إذا ما أراد أن يضع حدّاً للطغاة الذين يذبحون شعوبهم كأنّها خراف يملكونها، عليه
أن يثبت أنَّ هذا لن يكون بأيدي طغاة عالميين يذبحون هذه الشعوب ذاتها ويمتصون
دماءها، ولن يكون باتجاه إحلال طغاة محليين جدد محلّ القدماء على خلفيةٍ من تدهور
الدولة الوطنية باتجاه بنى ما قبل الدولة لا باتجاه القيم العالمية الأوسع. وإلى أن
تغدو الكونية ومعها التدخّل مشروع العالم ككل، العالم الذي أصلح منظماته الدولية
وأقامها على أسس العدل والمساواة لا على هيمنة الأقوياء وتفرّدهم، فإنَّه محل شكّ،
كما تثبت تجارب التاريخ وكما يثبت التحليل النظري، أن يفضي التدخل إلا إلى مزيد من
الغوص في حمأة التخلف والظلم والاستبداد.
تكاد التدخلات المعاصرة كلها أن
تكون جزءاً من مشروع للهيمنة خلّع بنى العالم الثالث، ويكاد يطيح في أشكاله
الأميركية الحالية المنفلتة من كل عقال بكل ما أنجزته الاستقلالات وحركات التحرر
الوطني. وفي الوقت الذي تبدو الإدارة الأميركية الحالية محجمة بعض الإحجام عن بعض
التدخلات المباشرة، فإنّ التدخلات الأميركية السابقة والحالية على اختلاف أشكالها
كانت جزءاً من مشروع وقفت على رأسه الطبقة القائدة في الولايات المتحدة ونخبها
الجمهورية والديموقراطية خدمةً للشركات الأميركية عابرة القوميات أساساً، وهو مشروع
إمبريالي بمعناه الفظّ الذي يرمي إلى النهب وحده وإلقاء البلد المنهوب على قارعة
الخراب والفوضى المتعاظمة التي تستدعي مزيداً من الفظاظة والعنف.
ترتكز التدخلات الأميركية
الحالية على فرط القوة العسكرية التي لا تكفّ عن انتهاك المبادئ الليبرالية
المدّعاة أكثر مما ترتكز على مزايا النظام الاقتصادي الأميركي. فهذا الأخير ربما لا
يستطيع كسب الرهان على منافسيه في سوق مفتوحة فعلاً، كما يتخيلها الاقتصاديون
الليبراليون، ولذلك نرى السياسات الحمائية الأميركية الشديدة ودعم الدولة لقطاع
السلاح المتفوق شبه الوحيد بين بقية القطاعات الاقتصادية والذي كثيراً ما يتفلّت من
قواعد السوق. هكذا، تبدو أفضلية الولايات المتحدة، على حدّ تعبير سمير أمين، أشبه
بأفضلية قنّاص يغطي عجزه الآخرون، طوعاً أو قسراً. وهذا ما يجعله في حالة «حرب
دائمة» ربما يحتاج فهمها، علاوةً على فهم بنية عالمنا الحالي، إحاطةً بالتشكل
التاريخي للرأسمالية الأميركية الشمالية وخصوصياتها: الثورة الأميركية التي كانت
حرباً محدودة من أجل الاستقلال ووقف تقاسم المغانم مع الطبقة المسيطرة في الوطن
الأم من دون أبعاد اجتماعية كالتي عرفتها الثورة الفرنسية مثلاً؛ إبادة الهنود
الحمر واستمرار العبودية؛ البروتستانتية المتطرفة الناجمة عن تكييف التأويل الديني
لا عن تحوّل جذري في هذا التأويل؛ تشكّل الأمة من مجموعات من المهاجرين الذين
ينشدون النجاح الفردي والانضواء في آفاق لا تتعدى جماعاتهم وطوائفهم بدل الانضواء
في أحزاب معارضة؛ ديموقراطية تكاد تقتصر على جانبها الانتخابي وإدارة الاقتصاد من
دون إدارة الحياة السياسية .. إلخ.
أخيراً، إنَّ عدم رضى تلك الكتل
من المعارضة السورية المطالبة بالتدخل الخارجي عن سياسة أوباما وخيبة أملهم إزاء
إحجامه عن ضرب سوريا عسكرياً، ونظرتهم السلبية الضيقة إلى الاتفاق النووي الإيراني،
إنما تضعهم في موضع أقرب سياسياً وعقلياً وأخلاقياً إلى تلك الزمرة من مجرمي الحرب
اليمينية المتطرفة التي ارتبطت بريغان وآل بوش والمحافظين الجدد، تلك الزمرة التي
جاءت ببوش الصغير بعد انتخابات مثيرة للشكوك ليسرّع تنفيذ سياسة مرسومة مسبقاً،
مستغلاً حدثاً غامضاً ومثيراً للشكوك أيضاً هو الحادي عشر من أيلول 2001، على نحوٍ
يشبه كثيراً استغلال النازية حريق الرايخستاغ كي تصفي المعارضة وتحضّر للحرب.