سمير العيطة
هناك أسئلة كثيرة تتزاحم اليوم
حول أوراق الصراع الإقليميّ على سوريا وجوارها، وتخرج اليوم إلى العلن بشكلٍ لافت.
فبعد احتلال «داعش» لمدينتي تدمر والرمادي، بات التساؤل إذا ما كان التوجّه سيكون
نحو حمص أم دمشق أو القلمون في سوريا، أو نحو بغداد في العراق؟...
وظهرت «جبهة النصرة» على
قناة «الجزيرة» القطريّة، ممــثّلة بأميرها، محتفيةً بانتصاراتها في إدلب وجــسر
الشغور والآن أريحا، لتوضح أنّها القوّة الأساسيّة في ما يُسمّى «جيش الفتح»،
وأنّها تتحدّى «حزب الله» وإيران قبل السلطة السوريّة وقبل «داعــش»، التي لا
خــلاف معــها سوى متى يأتي زمن الخلافة. لا تهــدّد «النصرة» فقط بـ «تحــرير حلب
ودمشق»، بل تذهب إلى استنهاض قوى سياسيّة لمعركة تُريدها أيضاً في لبنان.
هكذا يتمّ تكريس ترابط العراق
مع سوريا مع لبنان في هذه الفوضى العابرة للحدود التي يبرز أقوى لاعبيها كتنظيمات
عسكريّة سياسيّة أمنيّة، تعتمد فكراً مؤطّراً متزّمتاً، ينبني على الشحن الديني
المذهبيّ. فهل لم يعُد بالإمكان الخروج من إشكاليّة هذه القوى في أيّ بلدٍ على حدة؟
لا علاقة لكلّ هذا، لا بالحريّة
ولا بالكرامة ولا بالمواطنة، لا «بثورة سوريا» ولا بـ «ثورة أرز»، ولا بحقوق الكرد
أو ديموقراطيّة العراق. بل بالتجاذبات حول نهوض تركيا وإيران كقوّتين إقليميّتين
وتخلّص إسرائيل من القضيّة الفلسطينيّة. وأيضاً، وربّما أساساً، بمسار التفاوض حول
النوويّ الإيرانيّ، بين دولٍ تؤسّس لموقعها في لعبة عالميّة معقّدة لما بعد حزيران
المقبل، إذا ما نجح هذا التفاوض أو تمّ إفشاله. يُمكن بالتالي للصراع العسكريّ أن
يستمرّ طويلاً لأنّ الأطراف الإقليميّة الأساسيّة المنخرطة فيه تعيشه كصراعٍ وجوديّ
حاسم. وخوف كلّ منها أن يكون مصيره كمصير العراق بعد غزوه في 2003، يدفعه نحو تغذية
الفوضى خارج حدوده، في لعبة هي أبعد بكثير عن ثنائيّة صراع سنيّ - شيعيّ، لأنّها
بطبيعتها متعدّدة الأطراف.
في هذا المناخ، تدفع الدول
الإقليميّة القوى والشخصيّات السياسيّة في العراق وسوريا ولبنان للاصطفاف إلى
طرفها، من دون نقاش. إمّا معي أو ضدّي، وفي الخطاب والممارسة، وليس عبر الانخراط في
ثنائيّة صراع سنيّ - شيعيّ بحت، بل عبر التغاضي عن التنظيمات العسكريّة الأمنيّة
المتطرّفة ومحاباتها. هكذا، يؤول الأمر إلى وضع مصير البلدان الثلاثة كاملاً بيد
الدول الخارجيّة، لتبرز هذه التنظيمات على أنّها الفاعلة الوحيدة الحقيقيّة على
الأرض، وأنّ السياسة المرتبطة بأيٍّ من البلدان الثلاثة كوطن، ليست سوى هامشٍ
لخطابٍ من زمنٍ آخر.
مسؤوليّة الأمم المتحدة، وبشكلٍ
خاصّ مجلس الأمن، أن يجدا أسساً لنظامٍ إقليميّ جديد يخلق سبيلاً للاستقرار
ويُطمئِن جميع الأطراف. لكنّ الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن منقسمون حول منظور هذا
النظام الجديد. ليس فقط بشكلٍ ثنائيّ بين روسيا والصين من ناحية والثلاثة الآخرين
من ناحية أخرى، بل أيضاً بين الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا.
إلاّ أنّه ليس هناك أيّ إطار
حاليّ لوضع أسس النظام الإقليميّ الجديد: اصطفافٌ مع الحكومة العراقيّة وحكومة
إقليم كردستان ضدّ «داعش» في العراق وحده، من دون سوريا، ومن دون حلّ مستدام
للمعضلة الطائفيّة القوميّة في العراق. وتوافقٌ على تجنيب لبنان أهوال الحرب
السوريّة لكن بآليّات أبطأ من الجهود المبذولة لتفجيره. وتمسّك صوريّ ببيان «جنيف
1» لحلّ الأزمة في سوريا، في حين لا شيء يدلّ على إمكانيّة وضع «منظور مستقبليّ
يمكن أن يتشاطره الجميع»، وعلى إقامة «هيئة حكم انتقاليّة باستطاعتها أن تؤسّس
لبيئة محايدة تتحرّك في ظلّها العمليّة الانتقاليّة».
إنّ مسؤوليّة القوى والشخصيّات
السياسيّة في العراق وسوريا ولبنان، والتي ما زالت تؤمن بأوطانها، هي اتخاذ مواقف
واضحة وحاسمة من كلّ التنظيمات العسكريّة الأمنيّة المتطرّفة، كي تبقى هناك
إمكانيّة للحياد، ليس تجاه التطرّف، بل تجاه الدول والأنظمة التي تقبع وراء
التطرّف. مسؤوليّة كبرى ومهمّة دقيقة وعسيرة... ولكنّ الأوطان الحقيقيّة تحتاج إلى
مَن يبنيها ويحافظ عليها.