جميل النمري
أثار حديث جلالة الملك عن دعم
العشائر السُنّية في شرق سورية وغرب العراق، موجة قوية من التكهنات، ذهبت -كالعادة-
بعيدا جدا، وبحثت في ما وراء الخبر في عالم السيناريوهات المرسومة والمحتملة لإعادة
تشكيل المنطقة، وكياناتها وحدودها.
لا أحد يستطيع أن يغير في حدود
الدول. لكن خرائط النفوذ والهيمنة والأدوار، تتبدل وتتحرك على قدم وساق. والسياسة
الأردنية واقعية جدا، والحديث لا يتجاوز معناه المباشر والمقصود، وهو بالفعل مطلب
ملح للغاية. والملك نطق بكلمة الحق التي تتفجر في وجوهنا كل يوم، وتقول إن الكارثة
المتحققة في شرق سورية وغرب العراق، هي وقوع عشائر تلك المنطقة وعموم أبنائها، بين
مطرقة تنظيم "داعش" وسندان القوى الجائرة والطائفية. فمنذ اندحار الجيش العراقي في
الموصل بالطريقة المشبوهة إياها، بات واضحا أن نجاح المواجهة مع "داعش"، ودحر مشروع
التقسيم الذي يمثله هذا التنظيم الخطير في سورية والعراق، يعتمدان على إنشاء قوة
عسكرية تمثل خط الوطنية والاعتدال في الوسط السُنّي. وقد ظهر أن الضربات الجوية
للتحالف الدولي لن تحقق نتيجة من دون تدخل عسكري على الأرض، لا تريد الولايات
المتحدة، ولا أي طرف في التحالف، القيام به.
ومهما كانت الآراء بشأن حقيقة
موقف الولايات المتحدة الأميركية، التي يقال إنها تريد إضعاف "داعش" وليس إنهاءه في
هذه المرحلة؛ أو أنها تضع له الخطوط الحمراء بفعالية في الشمال (أي في مناطق
الأكراد)، فيما تتركه في الجنوب، أي في مناطق السُنّة، فإن الثابت أنه لا بديل عن
وجود قوة عسكرية مقتدرة من أبناء المناطق السُنّية، تمثل خط الوطنية والاعتدال،
تتفرغ بعد دحر "داعش" للتسوية السياسية بين الأطراف الداخلية على قاعدة التكافؤ
والمشاركة في الإصلاح الداخلي، وإعادة بناء الدولة وتحقيق صيغة متوازنة ومنصفة في
الحكم.
نوري المالكي والقوى التابعة
لإيران في العراق، استثمرت اجتياح "داعش"، والرعب الذي أشاعه، لتشريع التعبئة
لإنشاء مليشيا ما أطلق عليه "الحشد الشعبي"، وتشريع المليشيات الموجودة للأحزاب
الشيعية لتصبح قوة موجودة رسميا، تبسط سيطرتها على المناطق والأحياء بشرعية كاملة.
من أراد "داعش" في شرق العراق
غير المالكي وصحبه؟ لقد تأكد هذا مجددا بانسحاب الجيش العراقي من الرمادي، كما
انسحاب الجيش السوري من تدمر. وهو أمر لم يملك رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي
السيطرة عليه. ورغم النداءات المتكررة، استمرت المماطلة والتباطؤ في تسليح العشائر
السُنّية، وهي ترى نفسها ضحية على الجانبين؛ بين جحيم "داعش" ونار المليشيات
الطائفية.
أين الملغز في حديث الملك،
والحقيقة تصرخ بأعلى الصوت في وجوهنا، بأن كل شيء يعتمد على دعم العشائر السُنّية
في العراق وسورية لتشكل قوة اعتدال وطني، لدحر الطائفية والإجرام على كلتا
الجبهتين؛ السُنّية والشيعية، من أجل وطن عروبي موحد لجميع أبنائه؟ هذا خط الأردن.
والحديث عن طموحات إقليمية وسيناريوهات مشبوهة، هو مهنة الخيالات المريضة. إنما
هناك، بالطبع، مصلحة أمنية ومباشرة وملحة للأردن في مواجهة الموقف والمخاطر الناجمة
عن سيطرة "داعش" في تلك المناطق، ووصوله إلى الحدود. والأردن الآن دولة مركزية في
الإقليم، ومن السخف الاعتقاد أنه يستطيع أن يحمي نفسه، أو أن يسهم بدور إيجابي،
بالاستنكاف والانكفاء.
طبعا، هذه ليست مهمة الأردن
وحده. وما نزال نقول إن قوة عربية مشتركة يجب أن تلعب دورا. وبدلا من القواعد
الأميركية، أو على الأقل إلى جانبها، يجب إنشاء قواعد دعم لوجستي متقدم مشتركة
عربية، لإسناد قوات مقاتلة من أبناء المناطق السُنّية في جنوب شرق سورية، وجنوب غرب
العراق.