وصفي الأمين
بتراجع الحلفاء وتركيا عن
معاهدة سيفر عام 1920، التي تضمنت بنوداً كانت لتساعد الكرد في إقامة دولتهم
القومية، وبإقرار معاهدة لوزان عام 1923 التي تجاهلت ذكرهم، تراجعت القضية الكردية
وبقيت من دون حل، وأصبحت أحد مصادر التوتر والصراع الأساسية في الشرق الأوسط حتى
اليوم.
وفيما تبدو المنطقة مقبلة
على تحولات وتغييرات سياسية وديموغرافية، فإن الأحزاب والقوى الكردية، التي تجد
نفسها محاطة بجملة من الأخصام والأعداء والتهديدات، تؤسس لوسائل وأدوات عسكرية
وأمنية وسياسية وإدارية، للاستفادة من الواقع الذي تفرضه طبيعة انتشار القوى الجديد
في المنطقة، وضعف الأنظمة والجيوش، وتَشَكُل معاقل ومساحات جغرافية تديرها جماعات
مسلحة، بينها «داعش» الذي أعلن «دولة الخلافة».
فالكرد يعملون على تحقيق أكبر
قدر من المكاسب الميدانية، لقطع الطريق على أي محاولة لإجهاض مشروعهم، خصوصاً مع
وجود خطر الوقوع تحت سلطة التكفيريين. شكلت معركة عين العرب «كوباني» لحظة تاريخية
نادرة بالنسبة للكرد، فهي لم توحدهم حولها فقط، بل انتزعت موقفاً عالمياً مؤيداً
وداعماً لهم، ومنحتهم فرصة تدويل قضيتهم، حتى أن الموقف التركي السلبي من الدفاع عن
المدينة، بدا شاذاً ومعزولاً. لكن التناقضات والاختلافات بين الأحزاب والتيارات
الكردية، حولت تلك اللحظة من فرصة وعامل وحدة وتجانس، إلى ما يشبه تقاطع مصالح
موقت، على رغم أهميتها وحساسيتها. وهنا يظهر حجم الخطيئة التاريخية التي يرتكبها
العرب في طريقة تعاطيهم مع القضية الكردية، وقضايا الأقليات الأخرى. هم تعاملوا مع
الكرد باعتبارهم كتلة واحدة صلبة، تحمل الأهداف والأفكار والطموحات والتوجهات
نفسها، وتسعى معاً لنسج تحالفات واحدة، تهدد العرب ومصالحهم (هو المنطق الغربي نفسه
في التعاطي مع العرب والمسلمين). فالحديث يدور حول كتلة «انفصالية» تعمل على بناء
دولة مشبوهة. ويعتبرون أي مكسب كردي، خسارة قومية واعتداءً على الحقوق الوطنية
للعرب، ويصرون على أن ينظروا إلى حركتهم بعين التوجس والريبة، فتتحول هذه الأوهام
والتكهنات إلى أزمة العرب ومشكلتهم، فتغيب معاناة الكرد، أو تُغَيّب، وتضيع قضيتهم
الإنسانية والحقوقية، ويصبح الحديث عنها أقرب إلى الخيانة. كما تغيب حقيقة أن العرب
والكرد، وبقية مكونات المنطقة، هم جميعاً، في مواجهة الإرهاب التكفيري والهيمنة
والنفوذ الغربيين، ومن ضحاياهما، وأنهما معنيان بالصراع الإقليمي الذي يهدد الجميع.
ويساعد انقلاب القيم واختلال المعايير، وغياب الرؤية، وانعدام الثقة، في إظهار
الكرد بمظهر الحلفاء لأعداء الأمة. كما تدفع الحركة الكردية ثمن تعامل بعض فصائلها
مع الصهاينة وانخراطها التام في المشروع الأميركي، بل وتحالفها، أحياناً، مع تركيا
في المعركة ضد العرب والكرد معاً.
أولاً، لا بدّ من التسليم بأن
الفوضى الأمنية والسياسية العارمة، وتحطيم الحدود، وتفكك الدول في المنطقة، شجعت
الكرد على تجاوز الممنوعات والمحرمات التي فرضها عليهم العرب وبقية دول الإقليم.
ثانياً، في غياب المشروع
العربي، وانهيار «الدولة الوطنية»، بالتزامن مع تراجع النظام العالمي أحادي
القطبية، وبداية تشكل نظام عالمي جديد، يعمل الكرد على وضع الأسس لكيانات كردية
مستقلة، أو شبه مستقلة، وربما هم يرسمون ملامح «دولة»، يعتقدون أن العالم لن يمانع
قيامها، إذا ما نجح المشروع الأميركي في إعادة رسم خرائط المنطقة. وهم يسجلون
اليوم نجاحاً نسبياً في إدارة مناطقهم في سوريا وحمايتها، مستفيدين من غياب الدولة
السورية، ومن تجربة كردستان العراق. وقد يشجعهم الإنجاز الانتخابي الأخير في تركيا،
مقروناً بالهجوم العسكري الأمني التركي الجديد ضدهم، على تصعيد حركتهم ومطالبهم
هناك إلى الذروة. هنا لا بد من الإشارة إلى أن الولايات المتحدة ربما تعتبر مشروع
الدولة الكردية نموذجاً آخر «للدول» التي تعمل على إنشائها في المنطقة، يختلف في
طبيعته عن «دولة داعش» لكنه لا يتعارض مع مبدأ قيامها، مع إمكان استخدامها في منع
تمدد التنظيم أو تحجيمه كلما اقتضت الضرورة.
ثالثاً، إن عمق أزمة الشرق
الأوسط وتعقيداتها، وغياب قوى إقليمية قادرة على حماية «النظام» الذي كان قائماً،
وعجز القوى الفاعلة عن تقديم تنازلات، وفشل الغرب المتفاقم في فرض شروطه وتسوياته،
إضافة إلى الصراع المحتدم على ملء الفراغ الناتج عن الانهيارات.
كل ذلك، ينعكس على الكرد بنفس
قوة انعكاسه على العرب، ويؤجج بين تياراتهم وفصائلهم تنافساً حاداً على القيادة
والزعامة والمصالح، وعلى البدائل والخيارات. فالخيارات الكردية ليست واحدة،
والخلافات والتناقضات بينها، تشبه إلى حد بعيد تلك السائدة في محيطهم العربي.
ويرتكب العرب خطأً فادحاً بوضعهم في إطار واحد، في صف الأعداء والمنافسين، وفي
اعتبارهم تهديداً قومياً.
لا بد من التمييز بين التيارات
الكردية السياسية والشعبية. ولا ينبغي سحب تحالفات «الحزب الديمقراطي الكردستاني»
بزعامة مسعود برزاني في العراق، على بقية المكونات والتيارات الكردية في العراق
ومحيطه. فلحزبي «العمال الكردستاني» و«الشعوب الديمقراطي» في تركيا وحزب «الاتحاد
الديمقراطي الكردي» في وسوريا، خيارات مناقضة ومختلفة. وبرزاني، الذي يخشى أكراد
سوريا وتركيا، لا يألو جهداً في التضييق على «العمال الكردستاني» لمنعه من التحرك
ضد أنقرة، أو حتى إزعاجها. فيما يدفع حزب «العمال الكردستاني» «البيجاك» (حزب
الحياة الحرة الكردي الإيراني) بعيداً من الحدود الإيرانية، لمنعه من التحرك ضد
الدولة في إيران (حيث تخلت معظم الأحزاب والتيارات الكردية، منذ عقود، عن فكرة
الانفصال والدولة المستقلة). وهو مؤشر واضح على رفض «العمال الكردستاني» الاشتباك
مع طهران، والتحرك ضد محور المقاومة. كما أحبط «الاتحاد الديمقراطي» كل محاولات
برزاني لمد نفوذه إلى سوريا، ورفض الرضوخ لضغوط أنقرة والغرب للوقوف ضد قوى
المقاومة في سوريا. أما حزب «الشعوب الديمقراطي» التركي، بقيادة صلاح الدين
دميرتاش، فيتبنى خيارات سياسية وفكرية وثقافية تتسع لكيانات عرقية وطائفية غير
كردية، وينزع إلى الانخراط في نضال إنساني عالمي.
رابعاً، إن الحركة الكردية،
تاريخياً، هي حركة تحرر، شاركت بفعالية في المعركة ضد الهيمنة الغربية والاحتلال
الصهيوني، ولا يضيرها انحراف بعض فصائلها أو إخفاق أخرى، وهذا ليس غريباً، فالحركات
والتيارات العربية شهدت، أيضاً، إخفاقات وتراجعات وانحرافات كثيرة. وما يبدو اليوم
حلفاً مع الأميركيين، في بعض المواقع، لا يعدو كونه تقاطع مصالح مرحلياً فرضته
الهجمة الشرسة والمعقدة التي يتعرض لها العرب والكرد والإيرانيون والأتراك على حد
سواء. الأكراد يقبلون الدعم الأميركي لحاجتهم اليه في مواجهة «داعش»، كحاجتهم لضغط
واشنطن على أنقرة لمنعها من تقويض إنجازاتهم. لكن ذلك لا يعني استسلاماً لواشنطن أو
قبولاً بمشروعها. هم يدركون أن الولايات المتحدة تحتاج إليهم لإقامة توازن مع
«تنظيم داعش» ولمنعه من التضخم الى حد التزاحم والتعارض مع الأهداف الأميركية. كما
يعلمون أن الغرب يعتبرهم أداة ضغط على تركيا، وإحدى ذرائع الأوروبيين لمنع دخولها
الاتحاد الأوروبي. لكن الكرد يعرفون، أن الولايات المتحدة وإسرائيل حليفان رئيسيان
وتاريخيان لتركيا، وأن الجيش التركي، عدوهم الأخطر والأكثر قسوة، هو جيش أطلسي،
تحركه أوامر ومصالح وأهداف أطلسية، وهو يتعاون مع الجيش الإسرائيلي على كل
المستويات. ولا يشك الكرد بإصرار تركيا، وقرارها الحاسم في السعي لهزيمة مشروعهم.
وهم يعرفون، أيضاً، أن واشنطن تعتبر إقامة «كيان» أو «كيانات» كردية، جزءاً من
مشروعها لتفكيك المنطقة العربية إلى دول عرقية (غير عربية)، ودول مذهبية وطائفية
وقبلية (عربية).
باستثناء الحزب «الديمقراطي
الكردستاني» العراقي، وبعض الأحزاب الصغيرة، فإن خيارات الكرد لا تتناقض ولا تتواجه
مع خيارات قوى المقاومة والقوى الوطنية في المنطقة، بل إن حركتهم وتوجهاتهم
السياسية والفكرية، أكثر راديكالية، أحياناً، في مواجهة الموجة الغربية الجديدة، من
بعض القوى القومية والوطنية العربية.
عام 2012 زار صالح مسلم محمد
رئيس حزب «الاتحاد الديمقراطي الكردي» السوري لبنان، لكن قوى المقاومة لم تتمكن من
استغلال الزيارة كما ينبغي. ربما يعود ذلك إلى ترددها أو شعورها بالامتلاء. لكن
استراتيجية فتح الساحات وتوحيدها، لا يمكن أن تستقيم وتنتصر إذا اقتصرت على
الجانبين العسكري والأمني، وهي تفرض مواجهة الشحن العنصري ضد الكرد وغيرهم، وتقتضي
الانسلاخ عن كتل عربية تعيش صراعاً مذهبياً وطائفياً يمنعها من الاعتراف بحقوق
الكرد الإنسانية والثقافية كمواطنين، وتمعن في التعامل مع قضيتهم وكأنها مشكلة إحدى
طوائف الأمة ومذاهبها.
في الخلاصة، وقبل التوجه
بالاتهام أو النقد الى الحركة الكردية، بكل تياراتها، ينبغي الانتباه إلى أن كل ما
حققته هذه الحركة من إنجازات في تحصيل حقوق أو تأكيد أخرى، إنما كان بالثورات
والانتفاضات والقوة العسكرية، أو نتيجة لها، وسط تجاهل عربي وإقليمي ودولي لقضيتهم.
وهكذا، فإن معضلة الإقليم الكردية، هي في أن منجزات الكرد، لم تأتِ في إطار مشروع،
أو مشاريع وطنية وقومية تلحظ حقوقهم الجوهرية كمواطنين، وتقر بخصوصيتهم القومية في
دول هم من سكانها الأصليين.