هاني شادي
كانت بضع دقائق كافية ليعطي
مجلس الاتحاد الروسي، المجلس الأعلى للبرلمان، موافقته بالإجماع في 30 أيلول
المنصرم على طلب الرئيس فلاديمير بوتين باستخدام القوات الجوية الروسية خارج
الحدود، بما فيها سوريا.
ولعل ما يلفت أيضاً في هذا
القرار أنه يخوّل الرئيس بوتين باستخدام قواته الجوية خارج حدود روسيا بشكل عام، أي
أن هذا الأمر قد يمتدّ إلى دول أخرى قد تطلب المساعدة. وكان بوتين فور عودته من
نيويورك، حيث شارك في الجمعية العامة للأمم المتحدة وعقد قمة مع نظيره الأميركي
باراك أوباما، قد عقد جلسة طارئة لمجلس الأمن القومي الروسي واتخذ قراره بتوجيه
ضربات جوية للتنظيمات الإرهابية في سوريا، وعلى رأسها «داعش».
بعض المراقبين الروس يقولون إن
بوتين أبلغ أوباما بهذه الضربات حيث تمخّضت قمة الرئيسين عن تفاهم على الخطوط
العريضة لحل الأزمة السورية عبر الحرب على «داعش»، وإن ظل الاختلاف بين الجانبين
على مصير الرئيس السوري بشار الأسد. بيد أن مراقبين روس آخرين يعتقدون بأن سرعة
اتخاذ بوتين لقرار الضربات الاستباقية الجوية في سوريا يدل على تعثر قمة الرئيسين
أكثر من توصلهما إلى تفاهمات. الروس يؤكدون أنهم يتحركون بشكل قانوني بناء على طلب
من الرئيس السوري بتقديم مساعدات عسكرية عاجلة لدمشق. ولذلك يتهم بوتين التحالف
الدولي الذي تقوده واشنطن بأنه يتحرك بشكل غير شرعي لأنه لم يحصل على تخويل لا من
الحكومة السورية ولا من مجلس الأمن الدولي. لقد أعلن الرئيس الروسي غير مرة في
الأيام القليلة الماضية أنه يدعم الرئيس بشار الأسد والنظام السوري في محاربة تنظيم
«داعش» وغيره من التنظيمات الإرهابية، ولذلك تم الإعلان أيضاً عن إنشاء مركز
معلوماتي في بغداد يضمّ روسيا والعراق وإيران وسوريا لمكافحة الإرهاب، وهو ما رفضت
واشنطن الانضمام إليه. ويخشى مراقبون روس من أن يثير «حلف بغداد» حفيظة المسلمين
السنة في العالم وداخل روسيا نفسها، ولكن الكرملين دعا دولاً أخرى للالتحاق بهذا
المركز، ومنها الولايات المتحدة والسعودية ومصر والأردن وتركيا.
ردود الفعل الأميركية الأولية
على الضربات الجوية الروسية في سوريا تشير إلى أن ما تمّ قصفه ليس مواقع «داعش»،
وإنما مواقع المعارضة السورية المسلحة ومواقع مدنية. بيد أن موسكو تنفي ذلك، وتؤكد
أنها قصفت تنظيم «الدولة الإسلامية». ولا تعترض واشنطن على قيام روسيا بالضربات
الجوية إذا اقتصرت على مواقع «داعش» من دون أن تطال ما تُطلق عليه المعارضة
السورية. كما تعترض واشنطن على أن تكون نتيجة هذه الضربات هي تعزيز النظام السوري
والرئيس الأسد. غير أن واشنطن تتناسى أن الكرملين لا يميّز بين «داعش» وغيره في
سوريا، فهو يعتبر كل التنظيمات المسلحة هناك إرهابية وتهدف إلى إسقاط النظام السوري.
وتقول موسكو إنها لا تهدف من
ضرباتها الجوية الى تحقيق طموحات خاصة، وتشدّد على أنها تحمي أمنها القومي باعتبار
أن «داعش» أعلنت مراراً أن روسيا تُعد عدواً لها. ويعتقد فريق من المراقبين الروس
أن بوتين لا يقاتل لمصلحة الأسد بصفته الشخصية، وإنما لأجل نظرته نحو الأسد ونظامه
كعامل أساس في الاستراتيجية الروسية لمواجهة «داعش». لكن مراقبين آخرين في روسيا
يعتقدون أن رغبة بوتين تتلخّص في نهاية المطاف في تأكيد أن روسيا باتت قطباً أو
مركزاً عالمياً رئيسياً في النظام العالمي الجديد، الذي سيحل محل نظام الأحادية
القطبية والانفراد الأميركي بالعالم. ومن هنا يرغب الكرملين، كما يبدو، في أن يصمد
الأسد حتى بدء مفاوضات الحل النهائي من أجل الحصول على مكاسب جيوسياسية
وجيواقتصادية واستراتيجية خاصة لروسيا. ويدلّل هؤلاء على ذلك بما قاله الرئيس
الروسي الأربعاء الماضي، تعليقاً على قرار استخدام القوات الجوية الروسية في سوريا،
من أنه يأمل أن يتخذ الرئيس السوري موقفاً مرناً وفعالاً لحل الأزمة السورية،
موضحاً أن موسكو تعوّل على استعداد الأسد للحوار مع المعارضة «البناءة» في بلاده
والتوصل إلى حل وسط من أجل شعبه. عبارات بوتين هذه تدفع البعض داخل روسيا وخارجها
للاعتقاد بأن تفاهمات تم التوصل إليها بتنحّي الأسد خلال فترة ما، وأن الخلاف
حالياً يجري على الفترة الزمنية لهذه المرحلة الانتقالية، وعلى الصلاحيات التي يمكن
أن يتمتع بها الرئيس السوري فيها. غير أن البعض الآخر لا يرى أنه قد تمّ التوصل إلى
مثل هذه التفاهمات، وذلك على اعتبار أن بوتين نفسه لا يستطيع تقديم ضمانات بتنحّي
الرئيس السوري، خاصة أنه يشدد دائماً على أن الأسد هو الرئيس الشرعي لسوريا.
ولكن ماذا عن المجتمع الروسي
وموقفه مما يحدث في سوريا؟ لقد أظهر استطلاع للرأي لمركز «ليفادا» الروسي جرى في
أيلول الماضي أن 30 في المئة من المستطلعين لا يعرفون أي شيء عما يجري في سوريا،
و54 في المئة لا يتابعون بدقة ما يجري هناك، بينما 15 في المئة من الروس يتابعون
الأحداث في سوريا يومياً وبدقة. وعن اهتمام الروس بسياسة بلدهم في سوريا ومباركتهم
لها، يوضح الاستطلاع أن 11 في المئة يباركون هذه السياسة بشكل مطلق، و28 في المئة
يؤيدونها بشكل نسبي، بينما 11 في المئة لا يباركونها و33 في المئة لا يهتمون بها
أصلاً. ويبين الاستطلاع أيضاً أن 43 في المئة من الروس يؤيدون تقديم روسيا الدعم
العسكري لسوريا، ويرفض ذلك 41 في المئة. أما التدخل العسكري الروسي المباشر في
سوريا، فيرفضه 69 في المئة، ويؤيده 14 في المئة من الروس. كما أن 21 في المئة فقط
من الروس يؤيدون استقبال اللاجئين السوريين، و57 في المئة يرفضون ذلك.
هكذا، بدأت المعمعة الروسية
الأميركية في سوريا تتخذ شكلها العسكري في إطار شدّ وجذب حول أهداف أبعد، تتعلق
بالنظام العالمي الجديد في ظل منظومة رأسمالية عالمية تتصارع وتتقايض عناصرها
الأساسية على مناطق النفوذ والمكاسب الجيوسياسية. وفي هذه المعمعة يظل الغموض يلُفّ
المدى، الذي يمكن أن يصل إليه هذا الصراع وهذه المقايضة.