جميل مطر
أفهم أن تكون أميركا ودول
أخرى في الغرب منزعجة من التدخل العسكري الروسي في سوريا، ولكني لا أفهم أن تكون
مندهشة. لقد حاول الغرب على امتداد السنوات الماضية، وبخاصة السنوات التي أعقبت
مباشرة انهيار الاتحاد السوفياتي، تغيير قواعد السياسة في روسيا وتغيير مؤسساتها
وبنيتها الاجتماعية وتغيير رؤية الشعب الروسي لدور روسيا في العالم. حاول الغرب
وأنفق أموالاً طائلة، وكلها محاولات وأموال، لم تثمر سوى الفشل.
تمردت روسيا على الغرب وباشر
فلاديمير بوتين وجماعته مهمة تحديث المؤسسات الروسية، وإعادة تشكيل الوعي الوطني
معتمداً على الدور البناء الذي تعهدت الكنيسة التزامه، واستعادة ثقة الناس
والعسكريين بخاصة في المؤسسة العسكرية التي خرجت من حرب أفغانستان منكسرة النفس
ومنكّسة الرأس. لم يكن خافياً على العواصم الغربية أن حلم الامبراطورية الروسية سوف
يبقى حياً لفترة طويلة في بنية إنسان روسيا ويستمرّ هاجساً في بنية السياسات
الخارجية لدول الغرب. لذلك ركز الغرب بالضغوط الثنائية وبضغوط «حلف الأطلسي» و
«الاتحاد الأوروبي» على هدف إضعاف النفوذ الروسي في دول الجوار، والعودة إلى سياسات
عزل روسيا عن محيطها مع الحفاظ على حد أدنى من مشاركتها كطرف دولي.
فشل الغرب في إعادة تفصيل دولة
روسية على شاكلته أو تابعة له، وإن كان يسجّل لمصلحة الغرب خلق ثم تشجيع طبقة من
المغامرين استفادت من مرحلة بيع «الدولة» في عهد الرئيس يلتسين، وهي الطبقة التي
قام الرئيس بوتين بتصفية قادتها وإحلال آخرين لتصبح أساس قواعده المالية
والاقتصادية، ولتشترك في تمويل عملية تحديث المؤسسات وبرامج الرفاه الاجتماعية،
وتكون علامة بارزة من علامات النظام الاقتصادي المختلط الذي اختاره بوتين لروسيا
الجديدة.
الغرب الآن مندهش لتدخّل روسيا
عسكرياً في سوريا. اندهش أيضاً عندما تدخلت في جورجيا واستعادت شكلاً من اشكال
الوجود الدائم على أراضيها، اندهش عندما انتزعت، أو استعادت، شبه جزيرة القرم من
السيادة الأوكرانية، واندهش مرة ثالثة عندما تصدّت سياسياً و «عسكريا» لتدخل الغرب
في أوكرانيا. الغرب مندهش لأنه لم يعترف بعد بفشله في فرض التغيير في روسيا، واستمر
يعتقد أن تدخلات موسكو الخارجية استثناءات ارتكبها بوتين تحت ضغط ظروف اقتصادية
واجتماعية ولنقص في شعبية الرئيس.
قالوا في الغرب، ويقول بعض
العرب أيضاً، في تفسير التدخل العسكري الروسي في سوريا، إنه جزء من محاولات عديدة
تُجرى لإلهاء الشعب الروسي بعيداً عن مشكلات حياتية تتعقد باستمرار. الحديث الآن
يتردّد في أجهزة إعلام غربية وعربية أيضاً، عن أزمة اقتصادية عنيفة تمسك بخناق نظام
الرئيس بوتين بما يحمل معنى الرغبة أو الوهم في أنه قد يتراجع إذا حصل من الدول
العربية الغنية على اتفاقات تجارية أو اقتصادية أو مزايا نفطية تخفف من أزمته
الداخلية.
قالوا أيضاً، إن وراء التدخل في
سوريا حاجة شخصية من جانب الرئيس بوتين لإهانة الرئيس أوباما والولايات المتحدة.
يشعر بوتين، بحسب رأي هؤلاء، بأن أميركا أهانت روسيا عندما انتهزت فرصة ضعف في
مرحلة انتقالية فتدخلت لفرض نظام سياسي مختلف وهدم بنية الدولة، وهي دولة كانت بحسب
عقيدته السياسية والوطنية دولة راسخة وعميقة. قالوا أيضاً إن بوتين شعر أكثر من مرة
أن أميركا لا تعامله في المؤتمرات الدولية بالاحترام الذي يستحقه رئيس دولة عظمى،
فضلاً عن أن الإعلام الغربي يتعمّد تشويه صورته.
قيل كذلك، إن بوتين فعل ما فعله
في سوريا لأنه يريد أن يضغط على الولايات المتحدة ودول الغرب لترفع أيديها عن
أوكرانيا، وتفكّ الحصار المفروض على روسيا. يفترض أصحاب هذا القول إن موقع سوريا في
حسابات واستراتيجيات الغرب يعادله موقع أوكرانيا في حسابات روسيا واستراتيجيتها.
يفترضون أيضاً أن الغرب سوف يساوم روسيا لتخرج من سوريا مقابل أن تعود لتهيمن على
أوكرانيا.
قيل الكثير، وبعضه استنفد وقت
صناع القرار وإعلاميين وجهدهم للردّ عليه تفنيداً أو استحساناً. نسينا أو تجاهلنا
الأسباب المعلنة من جانب الطرف الروسي والظروف على أرض الواقع. تجاهلنا مثلاً
التأكيد الروسي بأنهم هناك لأنهم ملتزمون الدفاع عن حكومة دمشق، وهو الالتزام الذي
لم يضعف في أي يوم. هم هناك أيضاً لأنهم مثل بقية الاطراف الدولية وشعوب المنطقة
يئسوا من عجز الولايات المتحدة والحلف الذي أقامته وتقوده لتقزيم «داعش» وإرغام
قادتها على العودة إلى احترام الشرعيات التي صنعتها وأطلقتها.. يسألون، ولهم الحق
في السؤال، عن أقصى ما يمكن أن تفعله أميركا في حالة اعترافها بالعجز والفشل. هل
تزيد الأمور تعقيداً، كما حدث في أفغانستان والعراق واليمن، فتتدخل في ما لا تفهم
فيه ولا يعنيها؟ هل فكرت أميركا ودول الغرب، في ما يمكن أن تفعله دول قريبة من
سوريا مثل روسيا وتركيا وإيران والخليج ومصر لو رحلت أميركا وتخلّت عن حلفائها في
المعارضة السورية وتركت الساحة لـ «داعش» ومنظمات إرهابية أخرى؟
عاشت المنطقة لمدة غير قصيرة في
حال فراغ قيادة وتوجيه. سمح هذا الفراغ لقوى متطرفة أن تنشأ وتجد من يمولها ويدعمها
بل ويشجعها على أن تطلق على نفسها اسم الدولة.. مسؤولية هذا الفراغ تقع حسب الرأي
الرسمي في موسكو، على أكثر من طرف. أهم هذه الأطراف على الإطلاق الولايات المتحدة
التي ضغطت بشعارات الديموقراطية على حكومات الدول في المنطقة فأسقطت بعضها من دون
أن تمهّد لبديل يملأ الفراغ ويضمن الاستقرار. لم تقتصر الفوضى على دول بعينها، كدول
«الربيع العربي»، بل امتدت وتغلغلت في تفاعلات النظام الإقليمي، حين خرجت دول من
هنا وهناك تتدخل عسكرياً وسياسياً وبالمال على أمل، كما تصوّرت، خلق مستقبل جديد
لها وللإقليم، وفشلت. يقول المسؤولون الروس إن الفشل كان من نصيب كل الأطراف،
والدليل هو هذه الصورة «المرتعشة» لنظام إقليمي تصدعت أركانه وأعمدته وتخلى عنه
ضميره وتخاصمت حتى تنافرت مكوّناته.
لم تكن عفوية اشارة بوتين في
خطاب الجمعية العامة للأمم المتحدة إلى سياسة أميركا في الشرق الأوسط وبخاصة حين
قال «هل تدركون عواقب ما فعلتم؟». أميركا فشلت في تسوية الأزمة سلماً أو حرباً.
أميركا فشلت في تدريب المعارضة السورية بعدما أنفقت نصف مليار دولار عليها، ولم
تعلن الفشل إلا بعدما قررت روسيا التدخل. أميركا شجّعت حلفاءها فتدخلوا بـأساليب
غير ناضجة وسياسات متخبّطة مما شجّع الأسد على جرّ الشعب إلى مذبحة تحت سمع العالم
وبصره. فشلت أيضاً في توصيل السلاح إلى مستحقيه وفشلت في تمويل المعارضة، لم تكسب
سوى فساد أغلب عناصرها وتنظيماتها. وبرغم هذا الفشل الرهيب الذي بات ينعكس على
أوضاع داخلية وتحالفات إقليمية، وبرغم غياب بديل واضح، مازالت أغلب الدول الحليفة
تعارض التدخل الروسي.
وجهت موسكو أكثر من رسالة إلى
الولايات المتحدة وحلفائها من خلال تدخلها العسكري الجوي في سوريا. أهم تلك الرسائل
على الإطلاق هي تأكيد حقيقة قديمة قدم عصر توازن القوى الامبراطوري وهي أن روسيا
أقرب من الغرب، وأميركا بخاصة، إلى إيران وتركيا والعالم العربي وأقاليم وسط آسيا،
وأنها تستطيع أن تصل، بكفاءة الحشد السريع والقواعد الجنوبية، في وقت أقصر إلى
مناطق الأزمات الصراع. رسالة أخرى دعمها مؤتمر للأمن الإقليمي لدول وسط آسيا عُقد
قبل أيام قليلة في منتجع بوراياي في كازخستان، تؤكد الرسالة أن روسيا وهذه الدول
تعتقد أن الوضع في أفغانستان يزداد سوءاً وأن أحد أهم أهداف الإرهابيين اختراق
منطقة آسيا الوسطى. الإرهاب في نظر روسيا وحلفائها الآسيويين قوس يحاول أن يغرس أحد
رأسيه في مقاطعة سينكيانج بغرب الصين والرأس الأخرى في القوقاز. إن اقتناع القيادة
الروسية وقيادات الصين وغيرهما بخطورة هذا التهديد يجعل من الصعب على هذه القيادات
أن تثق في أن تفلح أميركا وحلفاؤها في القضاء على الإرهاب، وتاريخهم في أفغانستان
وباكستان وسوريا والعراق وغيرها شاهد عل فشل رهيب.
رسالة روسية أخرى كشفت عنها
أحداث الأسابيع الأخيرة تحمل رغبة موسكو في تأكيد أن روسيا صارت لا تقل قدرة عن
أميركا على تشكيل أحلاف دولية وإقليمية. روسيا لديها الآن رصيد ثقة لدى حكومات دول
أكثر عدداً منذ أن طرحت مبدأ رفض تدخل أميركا لنشر الديموقراطية وأفكار
النيوليبرالية وتشجيع الشعوب على طلب التغيير. روسيا الآن جزء أصيل في تجمع دولي
حول أجندة مختلفة عن أجندة الغرب، بل هي تقود هذا التجمع مع الصين والهند
والفاتيكان والبرازيل، أي مع ممثلي أكثر من نصف سكان العالم.