كيف
دخلت صحف الممالقة وتمجيد الأشخاص إلى سورية ...؟؟؟
انقلاب الثامن
من آذار يستهل عهده بإغلاق ماتبقى من الصحف الحرة ومصادرة أملاكها
"لن تكون سورية مابعد الوحدة
... كسورية ما قبلها" ... بهذه الكلمات التي كان يرددها الوحدويون وعلى رأسهم
الرئيس جمال عبد الناصر، ابتدأ عهدٌ جديد في سورية، هو عهد الوحدة العربية، عهد
الجمهورية العربية المتحدة برئاسة المصري جمال عبد الناصر عام 1958.
قسمت الجمهورية العربية المتحدة
إلى اقليمين، الإقليم الشمالي (سوريا) والاقليم الجنوبي (مصر)، وحدة اندماجية، بين
اقليمين لايمت بعضهما للآخر بصلة، لامن حيث التعليم ولا الديمغرافيا السكانية ولا
الاقتصاد ولا الصناعة، وحدة قامت فقط بالاعتماد على الدوافع القومية لدول عربية
خرجت لتوها من نير الاستعمار الأجنبي، وأرادت أن تشكل قوة قومية عربية بوجه
الاستعمار الصهيوني وكل استعمار يطمع بالأرض العربية مكاناً لقواته، ولكن الوحدة
جاءت متسرعة غير قائمة على أسس ومبادئ متينة، وتحمل من الطمع والاستغلال ما حمله
حكام مصر تجاه سورية المتقدمة المتطورة، فانهارت الوحدة بسرعة قياسية، لتجهض حلماً
تمنى الجميع أن يكبر ويستمر للأبد.
إلغاء الأحزاب السياسية
المستقلة، وعدم إشراك الجيش بالسياسة، والاستفتاء على الوحدة، هي الشروط التي وضعها
الرئيس جمال عبد الناصر لقبول الوحدة، أعقب ذلك حملة شرسة على الإعلام والصحافة
السورية، وإلغاء امتيازات الصحف، وإنهاء عقود من النضال الصحافي الوطني، التي بذلها
صحافيو سوريا للوصول إلى ماوصلوا إليه في زمن ما قبل الوحدة.
كانت الحجة دائماً، هي القومية
العربية، وخلق صحافة قومية موجهة، بعيدة عن المصالح الخاصة لأصحاب الامتيازات
الصحافية، وبدأت سلسلة من الاعتقالات والتضييق على الصحافة والصحفيين، بقيادة رجل
الأمن الأول في ذلك العهد (عبد الحميد السراج) الذي سخر كل قواته وطاقاته في سبيل
خلق صحافة ممالقة لعبد الناصر، تمجده وتدعو له، وكل من يخرج عن هذا الاطار كان
يعاقب بإغلاق صحيفته وإلغاء امتيازه.
ومن هنا خلقت صحافة جديدة من
نوعها، لم تشهدها سورية قبلاً، هي صحافة تمجيد الأشخاص وتعظيمهم، صحافة
الدكتاتورية، التي خدمت كل مصالح الحكام، ولم تؤدي مصلحة واحدة للدولة القومية التي
كان من المفترض أن هذه الصحافة خلقت لها في ذلك العهد.
والأسوء من ذلك كله، أن هذا
التعسف برقابة الصحافة ومصادرة حرياتها، وسلب امتيازات الصحافيين، قد تم تشريعها
بموجب القانون رقم /156/ لعام 1960 والذي نص في مادتيه الأولى والثانية على:
(1- لايجوز إصدار الصحف إلا
بترخيص الاتحاد القومي.
ويقصد بالصحف في تطبيق أحكام
هذا القانون الجرائد والمجلات وسائر المطبوعات التي تصدر باسم واحد بصفة دورية.
2- لايجوز العمل بالصحافة إلا
لمن يحصل على ترخيص بذلك من الاتحاد القومي وعلى كل من يعمل بالصحافة وقت صدور هذا
القانون الحصول على الترخيص خلال 40 يوماً من تاريخ العمل بهذا القانون ...).
لقد خلق هذا القانون جواً
جديداً ومقنناً من أشكال الاستيلاء على الصحافة، والقضاء عليها، وخاصة في دولة
تمتعت بحرية الصحافة وناضلت من أجلها حتى أيام الاستعمار الفرنسي لها، إلا أن
الأفكار الدكتاتورية استطاعت بجرة قلم أن تمسح كل ذلك الماضي الصحفي العريق، وتجبر
حتى الصحفيين ذوي الخبرة والمعرفة بالحصول مجدداً على رخصة لمزاولة العمل الصحفي من
الاتحاد القومي.
وبسبب هذا القانون، وما تتبعه
من إجراءات تعسفية في تطبيقه من قبل رجالات عبد الحميد السراج، فقد تنازلت معظم
الصحف والمجلات عن تراخيصها، ومنها:
- في دمشق: الرأي العام "أحمد
العسة" الانشاء "وجيه الحفار" الصرخة "أحمد علوش" القبس "ورثة المرحوم نجيب الريس"
الشام "بكري المرادي" الجبل "نجيب حرب" ألف باء "ورثة يوسف العيسى" الفيحاء "سعيد
تلاوي" الدنيا "عبد الغني العطري" النقاد "فوزي أمين" الرقيب "عثمان الشحرور"
......
- في حلب: الأسبوع السياسي –
الجمهور العربي – نداء العروبة ...
- في اللاذقية: الاستقلال –
نداء البلاد – الساحل السوري – الدفاع ...
- وفي حمص وحماة: العاصي –
السوري الجديد – العروبة – الفجر ....
وقد حلت بدلاً من هذه الصحافة
الحرة المستقلة، صحافة من نوع جديد، هي صحافة الممالقة والنفاق السياسي، صحافة
تمجيد الأشخاص والتهليل لهم مهما بلغت أخطائهم، ومن هذه الصحف التي رخص للعمل لها
في عهد الوحدة:
صحيفة الوحدة عام 1959 – صحيفة
الجماهير 1959 – مجلة الثقافة 1958 – مجلة الاصلالح الزراعي 1960.
وما من شك أن عهد الوحدة، يعتبر
عهد الانحطاط الأول للصحافة السورية، وإدخال مفاهيم جديدة عليها لم تكن موجودة
سابقاً.
لقد
دأب جمال عبد الناصر، على خلق نسخة أخرى من الصحافة المصرية التي لاعت الأمرين في
عهده، فكانت الكارثة بانهيار أهم صرحين صحافيين في العالم العربي وهما الصحافة
السورية والمصرية.
لم تدم الوحدة طويلاً، نظراً
للويلات التي ذاقها السوريون منها وعلى جميع الأصعدة، وجاء الانفصال في العام 1961،
الذي تلقفه معظم السوريون صدرٍ رحب، استقبالاً منهم لعودة حرياتهم وحياتهم الطبيعية
الاعتيادية، فعادت الحرية للصحافة بشكل كبير، وعاد الصحفيون إلى عملهم، بحرية
وثبات، وعاشت الصحافة شهوراً من العسل الجديدة، مع حكومة وطنية سورية جديدة أطلق
عليها اسم حكومة الانفصال، أعطت الحرية المطلقة للصحافة، فصدر المرسوم رقم /144/
لعام 1962 والذي تضمن إلغاء القانون الصادر في عهد الوحدة بحق الصحافة والصحافيين،
وبأحقية الصحفيين باسترداد امتيازاتهم الصحفية المسلوبة منهم قسراً في عهد الوحدة.
وعلى إثر ذلك صدرت عشرات الصحف
منها:
صحيفة النور 1962 – صحيفة
المنار 1962 – صرخة الأحرار 1962 – الصدى العام 1962 – دمشق 1962 – الوحدة الكبرى
1962 – صوت الناس 20/02/1963- المعرفة 1962 – الناقد 1962 – العام العربي 1962(حلب)
– العروبة 1962 (حلب) – البيان 1962 (حمص) – الخمائل 1962 (حمص) – الشاطئ 1962
(اللاذقية) – الشاطئ العربي 1962 (اللاذقية) – الفداء 1962 (حماة) – الحرية 1962
(حماة) ..... وغيرها الكثير من الصحف والمجلات السورية التي تاسست تباعاً وكانت قد
أغلقت سابقاً في عهد الوحدة البائسة.
لم
يستمر شهر العسل طويلاً، فلم تكد الصحافة تنعم بعودة الحريات إليها، حتى فاجئها
انقلاب عسكري بتاريخ 8 آذار 1963، عينت على إثره حكومة جديدة برئاسة صلاح البيطار
وقد رغبت هذه الحكومة بإجراء محادثات مع جمال عبد الناصر حاكم مصر، وفي سبيل ذلك
ولإظهار حسن النية قبل المحادثات، قامت بسلسلة من الاجراءات الانتقامية من خصومها
السياسيين ومن خصوم عبد الناصر، فأصدر المجلس الوطني لقيادة الثورة مرسوما تشريعيا
يقضي بالغاء ستة عشر صحيفة بتهمة تأييد الانفصال دون اي حق بالتعويض مع ختم مكاتبها
ومطابعها بالشمع الاحمر، كما يقضي المرسوم بمصادرة هذه المطابع وموجوداتها لصالح
خزينة الدولة ببيعها او توزيعها بين الوزارات والادارات كما يقضي بأن توضع تحت
الحراسة القضائية الاموال المنقولة وغير المنقولة العائدة الى اصحاب الصحف وازواجهم
واولادهم مالم تكن ملكيتها قبل 28 ايلول 1961، اما الصحف المصادرة فهي :
في دمشق : الرأي العام "احمد
عسة"، الايام "نصوح بابيل"، النصر "لوديع صيداوي"، صوت العرب "لعبد القادر قواس"،
الأخبار "لنسيم مراد"، المنار "لبشير العوف"، العلم "لعزت حصرية"، الطليعة العربية
"لعدنان الملوحي"، الصرخة "لأحمد علوش"، الشام "لبكري المرادي."
في حمص : الفجر "لأحمد نورس
السواح"، البيان "لحسن الشامي".
في حماة : الحرية "لبديع سالمة".
في حلب : الشباب "لمحمد طلس"،
التربية "لعبد السلام الكاملي"، برق الشمال "لانطوان حاتم".
ويتبين من هذا المرسوم أنه
ألغى جميع الصحف العائدة لجميع الاحزاب والفئات السياسية في سورية ولم يستثن سوى
جريدة اللواء العائدة للاخوان وجريدة البعث لصلاح البيطار وسمح بالصدور لجريدة
الوحدة لصاحبها نزيه الحكيم وبردى الناطقة بلسان الناصريين لصاحبها منير الريس كما
سمح بصدور جريدة الرأي الناطقة بلسان القوميين العرب.
جاء انقلاب الثامن من آذار،
لينهي ما بدأه عهد الوحدة من تخريب الصحافة في سوريا، ليغلق تاريخ طويل من النضال
نحو حرية الصحافة، وليطوي الصفحة على عقودٍ بذل صحفيوا سوريا من خلالها الغالي
والرخيص لينعموا بحريتهم، وليقدموا لشعبهم المعلومة البعيدة عن المغالطات والممالقة
للحكام.
ومع العام 1967 وإغلاق ماتبقى
من الصحف السورية الخاصة كصحيفة المضحك المبكي الساخرة، أطفأت شمعة الصحافة، وجفت
أحبار المطابع والصحف، في بلدٍ كانت تنضحُ بعشرات الصحف والمجلات، لتعيش حاضراً
جافاً مع عدد لا يتجاوز أصابع اليد من الصحف الرسمية وشبه الرسمية، فقيرة الشكل
والمضمون.
مواضيع ذو صلة :
-
امبراطورية الصحافة السورية من النشوء حتى الاندثار ... الحلقة الأولى
-
امبراطورية الصحافة السورية من النشوء حتى الاندثار ... الحلقة الثانية