كلماتهم
الأخيرة على أعواد المشانق ......
أشهد أن لا إله
إلا الله ... وأشهد أن محمد رسول الله ... وأشهد أن الخلافة للعرب إن شاء الله
كنا قد تحدثنا في
الجزء الأول من رواية فائز بك الخوري
عن شجاعة شهداء السادس من أيار وهم يخرجون من سجنهم ليلاقوا قدرهم المحتوم على
أعواد المشانق .
إلا أن رواية فائز بك عن شجاعة
هؤلاء الشهداء لم تنته هنا، فيتابع روايته عن روحهم ووطنيتهم حتى وهم على أعواد
المشانق ، يقول فائز بك :
بعد مغادرتهم السجن نحو أعواد
المشانق، كانوا كلهم فخر وأمل بأن يكون استشهادهم طريقاً لخلاص بلادهم وأبنائهم من
الاستعباد العثماني، ولعل شجاعتهم قد أرقت جلاديهم أنفسهم، كما أخبرنا الشاب أحمد
أفندي ناصر الذي حضر معظم مراسم الإعدام في دمشق وبيروت، فقد أخبرنا أحمد أفندي، أن
الشهداء بعد تلاوة أحكام الإعدام عليهم كان من المقرر أن يتم إعدامهم في عاليه إلا
أن قراراً من الدولة العليا جاء بأن يتم إعدامهم بدمشق.
ولدى
وصولهم أخذ الجنود
الأربعة عشر شهيداً إلى القاووش وهناك بلغ المساكين حكم إعدامهم وجيء بطاولة واسعة
عليها أوراق وأقلام ونادى فيهم مناد :
"اكتبوا وصاياكم ولكن حذار أن
يكتب أحدكم مايخدش الآذان أو ما يمس بشرف الدولة فإن وصيته تمزق ولاتصل إلى عائلته".
وبعد كتابة وصاياهم جيء بالشيخ
للشهداء المسلمين، وبالكاهن للشهداء النصارى …
فلما
جاء الشيخ للمرحوم عبد الغني العريسي قال له :
- اشهد ياعبد الغني
- فوقف ذلك الشاب وقال بصوته
الجهوري :
" أشهد ألا إله إلا الله وأشهد
أن محمد رسول الله … وأشهد أن الخلافة للعرب إن شاء الله "
وتقدم المرحوم سعيد عقل فركع
أمام الكاهن واعترف وهو طلق المحيا بسام الثغر، ثم أوصاه بعائلته وودعه.
ودعا
البوليس المرحومين بترو باولي وجورجي حداد إلى تتميم واجبهم الديني فقالا له:
- أرضونا على الأقل قبل موتنا …
نحن روم … فأحضروا لنا كاهن من الروم .
فخرج البوليس ثم عاد وقال لهما
:
- لايوجد الآن كاهن من الروم
فاعترفا الآن أمام هذا الكاهن .
فقال المرحوم بترو لرفيقه
المرحوم جورجي :
- وما ضرنا يا أخي إذا اعترفنا
أمام الكاهن الماروني ؟ نحن نقوم بواجبنا الوطني وربنا يغفر لنا على يد الكاهن
الماروني كما يغفر لنا على يد كاهن أرثوذكسي ولو قدر لي أن أتمم واجباتي على يد شيخ
مسلم لما تأخرت ، لأن الدين فوق المادة ، وركع أمام الكاهن الماروني واقتدى به
رفيقه .
وجيء أخيراً بالقمصان البيضاء
ليلبسها الشهداء، فأعطوا كل واحد قميصاً فقال لهم بترو باولي متضاحكاً:
- هل أصابكم العمى، ألا ترون أن
هذا القميص هو أصغر مني ، خذوه وأعطوه للشيخ أحمد فإني أرى قميصه واسعاً عليه وأظنه
لي.
لقد أبكانا هذا الاستخفاف
بالموت عند الشهداء البسلاء ، لقد أبكتنا وطنيتهم وعزيمتهم على الخلاص من نير
المستبد العثماني .
أجل ، يشهد جميع من حضرهم في
تلك الساعة من محبيهم وأعدائهم أيضاً … أنه لم تدمع عين واحد منهم ، ولا علا وجه
أحدهم اصفرار .
وفي الساعة الثالثة بعد انتصاف
الليل تحفز الجنود والشرطة لتنفيذ أوامر الطاغية ، نادى المنادي في الجنود : على
السلاح … فجمدت الفرقة المسلحة ، المبثوثة في كل أنحاء البلدة ، كأنها على أهبة
الدخول في معركة .
ودخل البوليس غرفة الشهداء
فنادى كل من سعيد عقل وبترو باولي وجورج حداد ، فلما سمع الرفاق الآخرون صوت
البوليس وكانوا قد جمعوهم في غرفة واحدة ، علا ضجيجهم وأخذوا ينادون :
- حبذا الموت !! … حبذا المشنقة
في سبيل الوطن !! خذونا معاً إلى الإعدام !!
مشى
الرفاق الثلاثة مكبلين بالقيود إلى ساحة الموت ، مرتدين قمصانهم البيضاء وذهبوا إلى
الصف الأول من المشانق المنصوبة ، ففحص الطبيب أجسامهم ( لأن القانون يقضي بعدم
إعدام المريض ) بينما ضابط الديوان يتلوا عليهم نص الحكم ، فغضب باترو باولي من هذه
الحركات والرسميات وصرخ فيهم :
- عجلوا بنا وخلصونا من وجهوكم
اللعينة … كان الأولى بكم بدلاً من أن تفحصوا أجسامنا بدقة أن تحاكمونا بعدل ..
إننا لانخاف الموت … ومن لم يمت بالسيف مات بالحبلة تعددت الأسباب والموت واحد
خلصونا وعجلوا .
وصعد هو من تلقاء نفسه إلى منصة
المشنقة فلما وضعوا الحبل في عنقه رفس الكرسي برجله فأهوى وقضى .
ورفس جورجي حداد كرسيه
بالبسالة نفسها التي أظهرها صديقه بترو .
مواضيع متعلقة :
مذكرات سجين في ديوان عرفي عاليه ... الجزء الأول