جولة
في أسواق دمشق بين زمنين ...
سوق الحميدية
يتحول لممر عبور ... لا سوق شراء
لاتزال مسيرة التخبط الاقتصادي
التي يعيشها رجالات الاقتصاد والسياسة في النظام بسورية ترخو بظلالها على لقمة عيش
الشعب البسيط الذي بات راتبه لايكفيه لسد احتياجاته الضرورية خلال الخمسة أيام
الأولى من الشهر.
لقد فشل الساسة وواضعوا النهج
الاقتصادي في هذا البلد بكل شيء باستثناء أمر واحد، هو اللعب على وتر المشاعر
الوطنية بنفوس الشعب الفقير، واقناعه بأن سبب تردي معيشتهم هو الحرب الكونية الشرسة
على قوت المواطن، الذي يتوجب عليه المقاومة والاصطفاف خلف الدولة لمواجهة هذه الحرب
المرصودة على نهج المقاومة والممانعة.
والحقيقة، أن مايعانيه المواطن
في سوريا، ليس إلا بسبب الفساد السياسي والاقتصادي الذي تفاقم أكثر وأكثر في ظل هذا
الفلتان الذي تعيشه البلاد، وباتت سياسة الرشاوي والمحسوبيات العلنية هي النهج
السائد في هذه الأوقات.
ومهما كانت التسمية التي تنطلي
خلف هذا الواقع المعاش (ثورة – حرب – أزمة – فتنة طائفية ....إلخ) يبقى الناس
البسطاء الذين تندرج في خانتهم أكثر من 70% من الشعب السوري، تبقى هذه الفئة من
الناس تعاني بصمت وتموت بصمت دون أن يشعر بها أحد، فغلاء الأسعار أصبح اليوم بلاءاً
لا يقدر على مضاهاته أحد من طبقة المواطنين البسطاء.
سوريا الخير والبركة كما
يقولون، تذهب بركتها رويداً رويداً، والمواطن الذي كان يعاني سابقاً من الجوع أصبح
اليوم لا يعاني بل يموت من الجوع.
وللحقيقة ليست هذه هي المرة
الأولى التي تعاني فيها سوريا من اختناق اقتصادي، وإن كانت هذه هي المرة الأولى
التي يعاني بها الشعب هذا الضيقة نتاج الرشاوي والفساد وتوزع الثروة بيد القلة
القليلة من جماعة النظام وأقربائه وأعوانه.
فبالعودة إلى الوراء في
خمسينيات القرن الماضي، وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية تحديداً، عاشت سوريا
واقعاً مشابهاً ولو قليلاً لما نعيشه اليوم، فالشعب الذي أنهكته الحروب لم يكن
قادراً على مضاهاة مصاريف احتياجاته اليومية، ولكن الفارق بين الأمس واليوم، أن
الشعب السوري في الخمسينيات لم يعاني من التغريبة القسرية عن وطنه والتشريد
والتهجير التي يعانيها شعبنا اليوم، وأن امتناع الشعب عن الأسواق في الماضي كان
مرده دائماً إلى التخوف من المستقبل في دولة حديثة العهد بالاستقلال فكان على
المواطن أن يحجم ولو قليلاً عن مغريات الأسواق وبضائعها، أما اليوم فامتناع الشعب
عن الأسواق، مرده إلى الفقر وقلة الحيلة، والبطالة التي صارت السمة الغالبة لمعظم
الشباب والرجال والنساء في دولة تنكمش رودياً رويداً فلم يتبقَ منها إلا مساحات
قليلة لاتغطي واقع العاطلين عن العمل.
بالأمس خفض التجار أسعار
بضائعهم وموادهم ليتناسب مع واقع السوق واحتياجات الشعب، واليوم يزيد التجار من
أسعار بضائعهم سعياً وراء الربح القديم الذي كانوا يجنوه عندما كان الدولار بخمسين
كما يقولون؟
كل شيء تغير، بين السابق
والحاضر، الشيء الوحيد الذي لم يتغيرن هو الأسواق التي شهدت وتشهد وستشهد، كل حقبة
من حقبات التاريخ التي مرت بها سوريا.
وستأخذنا مجلة الدنيا في عددها
الصادر في 3 شباط 1950 بجولة في أسواق دمشق من أول سوق الحميدية إلى البزورية، وقد
جاء في التحقيق المرفق بهذه الجولة:
"
جولة قصيرة في أسواق دمشق تكفي لتصوير وقف الحال بعد الرخاء،
والجوع بعد الشبع، واللعب بالمسبحة بعد اللعب بالليرات.
البضائع "النايلون" مكدسة هنا
وهناك، وأنواع الحلويات تحتل نصف محلات باعة الحلو، ولكن الزبائن مفقودون.
لقد بدأ الناس يبيعون مالديهم
في أسواق الأروام، بعد أن كانوا يشترون ما يلزمهم بعشرات المئات.
هل انقرض المال؟ هل دفن في
الصفائح كما هي عادة الأغنياء؟
السجادة التي بلغ ثمنها بعد
الحرب بقليل ألف ليرة أصبحت بمئتين وياليت هناك من يشتري!
والبدلة التي كانت تكلف ثلاثمئة
ليرة، وتجد ألف زبون لها، أصبحت بمئة وليس هناك من شاري!
حتى القرويين زبائن سوق الخجا
أعرضوا عن هذا السوق.
وهاهو صاحب المحل يخرج إلى
السوق راكضاً ليقبض على زبون.
أما سوق الحميدية فلم يعد أكثر
من ممر، ليس في نفس أحد رغبة ولاحتى بالفرجة.
قال لي أحد كبار التجار:
هل تصدق أنني لم أبع منذ أكثر
من أسبوع بعشر ليرات؟ ومن أين أدفع أجرة المحل والكهرباء والضرائب؟
أما في سوق الحرير، أو سوق
النسوان، فإن الحالة تكاد تكون محمولة.
فالمرأة دائماً في قضية ثيابها
ألزم من الرجل. إنما ماذا تشتري هذه السيدة؟
لاكرب دي شين، ولابروكار، بل
قطع من الأقمشة الأمريكية الرخيصة ودستة دبابيس، وكركر خيطان.
لقد تبدل الحال بحال، كانت كلمة
واحدة من الزوجة أو الخطيبة أو الابنة تكفي لشراء نصف السوق، أما الآن فكلمة أكثر
أو أقل يتم الطلاق أو فسخ الخطبة.
قال لي أحدهم:
لقد وصلت الروح إلى أنفنا
...
ولكن أين ذهبت الأموال؟
أخذناها من الإنكليز
والأميركان، فاستعادوها ثمن شراطيط وعلكة وشفرات ...
ثم تعال معي إلى سوق الصاغة،
إنك لم تعد تسمع أصوات النساء تتعالى هنا وهناك "مساومة"
وإذا التقيت بإحداهن، أو أحدهم،
فقد جاء لرهن ماعندهما ...
وأخيراً
لننتقل إلى مركز السوق السوداء، سوق البزورية ...
حتى المؤونة ألغاها معظم الناس،
كل يوم بيومه، الحال مو متحمل !
فبعد أن كان الناس يتزاحمون على
كيس السكر وسعره 300 ليرة أصبحوا يعرضون عنه وسعره 100 ليرة ...
هاهو أبو أحمد جالس في دكانه
يكش دبان ويرجو السترة.
وهاهو أبو صلاح، يتعوذ بالشيطان
ويرجو الله أن يغير الحال بأحسن !
أما الزبائن فإنهم يعدون على
الأصابع.
وصاح أحد التجار:
شو الناس ماعادت أكلت؟
والسوق الوحيدة التي لاتزال
رائجة وتلقى رواجاً حتى اليوم هي سوق (أم الفلافل) و(رؤوس الغنم) و(الحمص والفول).
هذه هي أسواق دمشق اليوم، ولا
أحد يدري ماذا سيكون مصيرها غداً، والأزمة تزداد شدة يوماً بعد يوم".
مجلة الدنيا 3 شباط 1950
هذه هي حال سوق دمشق بعد الحرب،
أما حالها اليوم فلسنا بحاجة لعرضه، فيكفي القارئ أن ينزل إلى أي سوق من أسواق
دمشق، ليجد الغلاء الفاحش الذي ماعرفته دمشق يوماً، ذلك الغلاء المغلف بالجوع
والألم لغالبية الشعب، الذي كان الضحية الأولى دائماً لهذا الواقع الذي نعيشه
بمختلف مسمياته.