ماهي حقيقة المدينة التي ينام الغرباء فيها بعد صلاة العشاء
(نادي الشرق) أكثر النوادي ارستقراطية في العالم ... وأهم عازفي
إيطاليا يعزفون في نادي (المطار)
لدمشق سرٌ خاص، فهي صباحاً مدينة منفتحة على العالم أجمع،
تستقبل الجميع في ربوعها وأحضانها، أما في المساء فتغدوا مدينة أخرى، منغلقة على
نفسها، لايسهر فيها الغريب لأن سهراتها حكرٌ على أبنائها ...
من قال أن دمشق وأهلها ينامون بعد صلاة العشاء مباشرة فهو جاهلٌ
بتفاصيل الحياة الليلية لهذه المدينة، فسهرات دمشق ولياليها لمن استطاع إليها
سبيلا، تترك بصمةً في الذاكرة لايمكن محوها مدى الحياة ...
هذا ما قاله أحد أهم عازفي إيطاليا ويدعى (البيرتو) وهو من
الأشخاص النادرين الذين تسنى لهم
اقتحام أجواء دمشق الخاصة والعمل مع فرقته في أشهر نواديها الليلية وهو نادي
(المطار) لمدة تزيد عن السبع سنوات ...
فكيف كانت سهرات دمشق أيام زمان، وكيف كان أهل دمشق يقضون
أوقاتهم ليلاً .... ؟؟؟
لعل الجواب الأمثل لهذا السؤال هو ماكتبته مجلة (الكواكب)
المصرية بعد تحقيق صحفي طويل عن سهرات أهالي دمشق الليلية ونشرته في مجلتها عام
1954 جاء في هذا التحقيق:
" إذا قدر لك أن تزور دمشق وتقضي فيها عدة ليالي فأنا انصحك بأن
تصطحب زوجتك الفاضلة، أو تشتري كتاباً عن فضيلة النوم بعد صلاة العشاء مباشرة،
فدمشق في الليل مدينة مقفلة بوجه الغرباء، وقد زرت دمشق أكثر من عشرين مرة وقضيت
احدى المرات شهراً كاملاً عرفت ملاهيها واحداً واحداً ومع ذلك فإني لا أدعي أنني
أعرف ليالي دمشق ....
ولا أعني بهذا أن دمشق لاتسهر وليس لها ليال ممتعة تعبق بالطرب
والرقص وعطر الخلان ... ولكن الحقيقة أن كل هذا يجري في السر وراء البيوت المطفأة
من الخارج، والمشعشعة بالنور والجمال من الداخل ....
وبعيداً عن هذه السهرات السرية التي يمنع على الغرباء من
الاقتراب منها، فلابد للزائر الذي يأتي لدمشق باحثاً عن السهر من زيارة ملهى
(المطار) فهناك على بعد نصف ساعة في السيارة من دمشق تستطيع أن تتناول طعاماً
لذيذاً على أنغام الموسيقى وأزيز الطائرات، وهذا المكان لايتسع لأكثر من مائة شخص
من الجنسين، إلا أن مايميزه جوه العائلي وفرقته الإيطالية المؤلفة من أربعة أشخاص
والتي تعزف فيه منذ أربع سنين ويرأسها المايسترو الشهير (البيرتو) الذي يضع غيتاره
على صدره ويعزف أروع المقطوعات الشرقية والغربية، ولعل سبب شهرة هذا الملهى أن
الإذاعة السورية تنقل كل أسبوع إلى المستمعين المقطوعات الموسيقية الراقصة التي
تقدمها فرقة المطار بقيادرة المايستروا البيرتو .... ولابد لي من الإشارة أن هذا
النادي يعتبر من أكثر النوادي ارستقراطية في العالم ولايأتيه إلا أثرياء دمشق الذين
يمتلكون السيارات الفخمة والسائحون الأجانب الذين يريدون أن يقضون أوقاتاً ممتعمة
في دمشق ...
وفي دمشق نادي ارستقراطي آخر يقع في قلب العاصمة اسمه (نادي
الشرق) وهو الشهادة لله يعتبر من أفخم النوادي الليلية لافي الشرق فحسب بل في الغرب
أيضاً، ولايوجد له مثيل حتى في بيروت عاصمة الملاهي والنوادي والكباريهات في العالم
...
وليس لنادي الشرق برنامج فني، بل هو ملتقى للعائلات وأصحاب
الأعمال والمشاريع، ومعظمهم لايرقص على الرغم من وجود جوقة موسيقية فهم يكتفون بلعب
الورق على أنغام الموسيقى ...
ومن النادر جداً أن تسمع صوتاً مرتفعاً في هذا النادي، فالكل
يتحدثون في همس ويتخاطبون عن بعد بواسطة الإشارات، ويضعون على أعينهم النظارات
المكبرة كلما دخل زائر جديد، أو لاحت في الأجواء رائحة من العطر تسبق سيدة حسناء
...
وفي دمشق أربع صالات بالتمام والكمال وكان عددها في الماضي نحو
عشرة، ولكن دائرة البوليس في العاصمة أرادت أن تحصر الحياة الليلية
في أصغر عدد ممكن، فسمحت لأربعة منها بالبقاء واشترطت أن يكون أصحاب الملاهي العشرة
شركاء في إدارة النوادي المرخص لها ....
وعلى العكس من الكباريهات والنوادي تنتشر المقاهي في كل مكان من
دمشق، فلعب الطاولة والورق أو الشدة كما يسمونها هناك وشرب الاراغيل وقراءة الصحف
كل هذه الألوان متواجدة ومتوفرة جداً في العاصمة السورية ...
وهناك المقاهي الشعبية التي يجلس زبائنها على كراسي خشبية صغيرة
يشربون الشاي ويستمعون إلى الحكواتي يقرأ سيرة عنترة بن شداد او مغامرات الزير سالم
وغيرها ...
أما الحفلات الخاصة والتي يتم فيها المساجلات الشعرية والسمر
والأنس فأشهرها هي التي تتم في قصر الزعيم السوري السابق فخري البارودي ومنزل
المطربة نورهان ومنزل الفنانة انطوانيت إسكندر وغيرهن من الأثرياء وأصحاب الصالات
والصالونات التي يجتمع فيها صحفيون وأدباء ووجهاء دمشق .... وخاتمة هذه السهرات
الخاصة كلها هو أمير البزق الأستاذ محمد عبد الكريم الذي يعتبر اسبرين الحياة في
الليالي الدمشقية ...
وأجمل ليالي دمشق وأمتعها، هي ليالي الربيع ففي هذا الفصل تفتح
أبواب المنازل المغلقة ويخرج الجمال في مواكب لاتنتهي لقضاء سهرات طليقة بين بساتين
دمر والهامة وضفاف بردى وتتلألأ الأنوار فوق الحدائق القائمة على الروابي التي تعيد
إلى الخيال صور (الحدائق المعلقة) كما كانت في برج بابل القديم ...."
لطالما عرفت مدننا السورية الهدوء والسكينة والأمان، حتى في
أحلك الظروف صعوبة منذ الخضوع للدولة العثمانية مروراً بالاستعمار الفرنسي ومالحقه
من أحداث ومآسي مرت على سورية، إلا أن المدن السورية حافظت قدر المستطاع على
عادتاها وتقاليدها ... سريتها وعلانيتها، وما كان في دمشق لايختلف عن حمص وحماة، بل
ويزيد عليه في مدينة الفن حلب وبقي لهذه المدن طريقتها الخاصة في السهر والاحتفال،
في الأفراح والأتراح، وعلى الرغم من المحاولات الجاهدة لنزع فتيل الطيبة والتعايش
التي عاشها السوريون في مدنهم، إلا أن طباعهم المتوارثة وطبيعتهم الطيبة ستتغلب
يوماً ما على كل محاولات التغيير وطمس معالم التمدن والرقي التي عاشها السوريون في
زمانهم ....