الانقلابين الثالث والرابع والعودة للمسار الوطني – انقلابا
العقيد أديب الشيشكلي:
كان التقارب البريطاني – العراقي – السوري في عهد سامي الحناوي
هما الدافع الأول لقيام الانقلاب الثالث، الذي نفذه العقيد أديب الشيشكلي الذي
يعتبر من أكثر القادة الوطنيين الغيورين على كيان الجمهورية السورية والخائفين من
دخولها في بوتقة الأحلاف الغربية.
العقيد أديب الشيشكلي من مواليد مدينة حماة، ومن أكثر الضباط
شجاعةً وبسالة، شارك في جيش الإنقاذ وقاتل بشراسة في حرب فلسطين عام 1948، أبعده
حسني الزعيم عن الجيش بعيد انقلابه، فأعاده سامي الحناوي بعد أن استتب له الأمر
بانقلابه على الزعيم.
في
19 كانون الأول 1949 نفذ العقيد الشيشكلي انقلابه، واعتقل سامي الحناوي وعديله
المتنفذ أسعد طلس قبل السماح لهم باللجوء إلى الدولة التي يختارونها بأنفسهم، ألغى
العقيد الشيشكلي جميع المعاهدات الغير وطنية المبرمة مع بريطانيا وأميركا، ودعا
الشيشكلي خلال انقلابه إلى عودة الحياة الدستورية، وتم إنجاز دستور جديد لسوريا
وانتخاب الرئيس هاشم الأتاسي رئيساً للجمهورية السورية عام 1950.
خلال هذه الفترة اشتد الخلاف بين أديب الشيشكلي وحزب الشعب
المقرب منه، ورأى الشيشكلي أن حزب الشعب بدأ بالخروج عن الغاية الوطنية الأساسية
لانقلابه وهي صون الجيش وكرامته وحفظ البلاد من أي معاهدة خارجية تضر بها، فما كان
منه إلا قام بانقلابه الرابع في 29 تشرين الثاني 1951 وقام باعتقال حكومة معروف
الدواليبي وقدم هاشم الأتاسي حينها استقالته من منصب رئاسة الجمهورية اعتراضاً على
هذا الإجراء الذي قام به الشيشكلي.
في 2 كانون الأول 1951 تولى العقيد أديب الشيشكلي رئاسة الأركان
ورئاسة المجلس العسكري ومهام رئاسة الدولة وحل المجلس النيابي، وفي 9 حزيران 1952
تم تعيين الزعيم فوزي سلو رئيساً للدولة وتم منحه السلطتين التشريعية والتنفيذية
وفي 19 تموز 1953 تم إجراء انتخابات رئاسية في سوريا كان فيها العقيد أديب الشيشكلي
مرشحاً وحيداً وتم انتخابه بالغالبية العظمى للأصوات رئيساً للجمهورية.
كان عهد أديب الشيشكلي عهداً ناصعاً في التاريخ السوري، فقد كان
أديب الشيشكلي وطنياً بامتياز يسعى لخير وطنه دون التفكير بمصلحته الشخصية، وعلى
الرغم من رغبته للتفرد للسلطة من خلال إلغاء الأحزاب تدريجياً لإبقاء حزبه الذي
أسسه (حركة التحرر العربي) هو الحزب الأقوى نفوذاً في سوريا، إلا انه استطاع أن
يوصل سوريا إلى العالم أجمع، فقد شجع الاقتصاد والزراعة والصناعة والتعليم وقام
بوضع حجر الأساس لمعرض دمشق الدولي أواخر العام 1953 كما نفذ مشروع إصلاح وتأهيل
سهل الغاب وقام بتأسيس مصرف دمشق المركزي في العام 1950 وبتأسيس الشركة السورية
المساهمة لاستثمار مرافئ اللاذقية، وألغى جميع العقود المبرمة مع الدول الجنبية
فأمم شركة التبع وشركة الكهرباء وشركة المياه، وباتت سوريا في عهده تعتبر من أهم
الدول اقتصادياً في الشرق الأوسط، كما قام بإصدار العديد من المراسيم والقوانين
الهامة التي مازال يعمل بها إلى اليوم فقد أصدر دستور عام 1950 وما يقارب ال 300
مرسوم دافعها الأول والأخير التأكيد على وحدة سوريا واستقلالها ووطنية قرارها، كما
قام بوأد الفتنة التي خرجت من جبل العرب والتي كانت لو نجحت لقضت على وحدة البلاد
السورية.
أما خارجياً فقد تم تلقيبه بعدو إسرائيل رقم واحد، كانت إسرائيل
تحسب للجيش السوري في زمن العقيد أديب الشيشكلي ألف حساب، وتخاف حتى من أن تفكر
بالاقتراب من الحدود السورية، كان الشيشكلي يقول دائماً أن الطريق ستفتح أمامه
يوماً من دمشق إلى القدس.
لقد فكر أديب الشيشكلي جدياً بإزالة إسرائيل من الوجود، وعمل
على ذلك من خلال شراء أسلحة متقدمة للجيش السوري وتزويده باهم الخبرات القتالية
والتدريبية، فقد تم في عهده شراء ثلاث سفن حربية فرنسية، وتم إبرام صفقة لشراء
طائرات مقاتلة بريطانية، وتم إبرام اتفاقية مماثلة مع أميركا لشراء دبابات وأسلحة
ثقيلة.
أما على المستوى الشخصي، فقد خرج الشيشكلي من السلطة كما دخل
إليها، فلم يستفد مادياً من تواجده في السلطة بل على العكس كان يصرف من ماله الخاص
على نفسه وعلى عائلته، ولقد حاول خصومه السياسيين كثيراً بعد رحيله من تشويه صورته
وتجريمه بجرم إساءة السلطة، وأمام ماضيه النظيف وجدوا من قصة استخدامه لجرارين
زراعيين لزراعة أرضه بحماة قصة كافية ليعلقوا عليها افتراءاتهم، وتتلخص وقائع هذه
القصة أنه طيلة فترة وجود الشيشكلي في السلطة لم يؤخذ عليه إلا أنه أعطى أمر لرئيس
البلدية في حماة بأن يستعير من البلدية جرارين زراعيين لزراعة أرضه في حماة، فاعتبر
هذا الأمر إساءة وتبذير في استخدام أموال الدولة ...!!!؟؟؟
على الرغم من إنجازاته الداخلية والخارجية، إلا أن الشعب السوري
الذي تعود على الحرية قد استهجن بعض الممارسات الاستبدادية التي تمت في عهد
الشيشكلي، وبدأت المظاهرات تخرج في عهده منددة بإغلاق بعض مكاتب الأحزاب السياسية،
وحل البرلمان، مطالبة بعودة الحياة الديمقراطية الدستورية للبلاد، فما كان من
الرئيس الشيشكلي الذي اجتمع مع قيادات أركانه والذي نصحه بعضهم باستخدام القوة التي
يملكها من دبابات ومدافع ثقيلة لقمع هذه المظاهرات، ماكان منه إلا أن انصاع لمشيئة
الشعب وقدم استقالته التي جاء فيها:
"
رغبة مني في تجنب سفك دماء الشعب الذي أحب، والجيش الذي ضحيت بكل غال من أجله،
والأمة العربية التي حاولت خدمتها بكل إخلاص وصدق، أتقدم باستقالتي من رئاسة
الجمهورية إلى الشعب السوري المحبوب الذي انتخبني والذي أولاني ثقته آملاً أن تخدم
مبادرتي هذه قضية وطني، وابتهل إلى الله أن يحفظه من كل سوء، وأن يوحده ويزيده منعة
وأن يسير به إلى قمة المجد ...."
هكذا انتهت ولاية الرئيس أديب الشيشكلي في 25 شباط 1954، دون أن
تراق نقطة دم واحدة، وعلى الرغم من كل ما قدمه من إنجازات لبلاده داخلية وخارجية
إلا أنه رفض أن يعتبر هذه الإنجازات ملكه الخاص يمن الشعب بها متى شاء، لقد رضخ
الشيشكلي لإرادة الشعب ليجنب الوطن ويلات الدماء التي ستسيل إذا ما تمسك أحدٌ
بالسلطة.
عودة الحياة النيابية- وسعيد اسحق أول مسيحي رئيس للجمهورية:
بعد استقالة الشيشكلي وسفره خارج سوريا، تم تعيين مأمون الكزبري
رئيس مجلس النواب رئيساً للجمهورية في 26 شباط 1954 ريثما تنتهي مراسم عودة الرئيس
هاشم الأتاسي للسلطة في 1 آذار مثلما ينص الدستور، إلا أن الكزبري كان غير مرغوب من
قبل القيادات العسكرية التي زحفت باتجاه البرلمان طالبة منه تقديم استقالته،
فاستقال الكزبري في 27 شباط وتم تسليم الرئاسة إلى رئيس مجلس النواب، وكان سعيد
اسحق المسيحي السوري هو الذي يشغل ذلك المنصب فتم تعينه رئيساً للجمهورية حتى عودة
الرئيس هاشم الأتاسي للرئاسة في 1 آذار 1954 ليكمل فترة رئاسته التي قطعها انقلاب
العقيد أديب الشيشكلي.
في هذه الأجواء السياسية، والاستقرار النسبي عاد الرئيس القوتلي
من منفاه ببيروت في 7 آب 1954 تلبية لرغبة السوريين الذين طالبوه بالترشح
للانتخابات الرئاسية القادمة، وليبدأ أزهى عهود الديمقراطية والحرية في سوريا، عهد
ما قبل الوحدة مع مصر.