من دون أدنى شك فرزت الأزمة السورية وجوه بائسة، وأحلام محتضرة، وعيون دامعة، ونفوس مشردة تائهة معلقة بموطنها الأصلي، هربوا من الاقتتال والنزاعات المسلحة في سورية الى الدول المجاورة، فوقعوا بين واقع شديد القسوة يتاجر بآلامهم وإنسانيتهم.
تعتبر الأزمة السورية من أشد الأزمات الإنسانية على الصعيدين الإقليمي والدولي، حيث كشفت تقاعس وفشل المجتمع الدولي، فالشعوب العربية والدول التي تتظاهر بالديمقراطية والحرية من دول الغرب لم تستطع إيقاف مأساة السوريين، بل زادوا من مآسيهم عن طريق دعمهم أطراف الصراع بالأسلحة والعمل على إطالة الحرب الداخلية الدائرة في سورية لإنهاكها وتدمير مقدراتها وزعزعة استقرارها وتعميق الشرخ الطائفي والمذهبي وإشعال حرب طاحنة بين أبناء الشعب الواحد التي لن يكون فيها منتصر سوى أعداء الوطن الذين يطمحون في إيصالها الى الدمار والخراب.
واليوم يمر المجتمع السوري بظروف حساسة أثقلت كاهل الشعب، ودفع السوريون تكاليفها من دمائهم وتكاليف معيشتهم، فقد وجدوا أنفسهم مع تحول معظم الأراضي السورية الى ساحة قتال في حالة نزوح دائم ومستمر، هرباً من الموت الى مناطق أكثر أمناً داخل البلاد، إضافة إلى من لجأوا الى بلدان الجوار مثل الأردن ولبنان والعراق ومصر وتركيا، فقد فّر هؤلاء من المخاطر التي يواجهونها في بلادهم من قتل وفوضى فراراً من الرعب الذي سكن قلوبهم الى البلدان المجاورة بحثاً عن ملاذ آمن ومستقر ليجدوا أنفسهم أمام مخاطر وصعوبات جديدة في تلك الدول التي فروا إليها من إفتقارهم الى المال وارتفاع أسعار الخدمات والسلع المختلفة.
تخطى عدد اللاجئين السوريين المليوني إنسان، حسب ما أعلنته المفوضية العليا للاجئين، فقد كان العدد قبل عام على الأقل يبلغ 230,671 لاجئاً مسجلاً، علماً بأن عدد غير المسجلين يبلغ أضعاف هذا الرقم سواء في دول الجوار أو غيرها، وقد ارتفع هذا العدد بعد انضمام مليون وثمانمائة ألف لاجئ خلال الأشهر الأخيرة مع أعداد غير مسجلة، وحسب بعض التقديرات فإن عدد اللاجئين السوريين تجاوز الأربعة ملايين، ومن المتوقع في حال حدوث ضربة عسكرية لسورية أن ينظم لهذا العدد نحو ربع مليون لاجئ، إضافة الى ثلاثة أرباع المليون من النازحين.
وما يزيد المأساة السورية هو أن أكثر من 52% من اللاجئين هم من الأطفال دون السابعة عشر من العمر، ولعل هذه المأساة أخذت في الاتساع على مستوى النازحين داخل سورية، ووفقاً لإحصاءات تعود الى نهاية شهر آب الماضي نشرها مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الانسانية فإن عددهم بلغ أربعة ملايين وخمسة وعشرين ألف نازح، بمعنى أن أكثر من ستة ملايين إنسان يتوزعون بين اللجوء والنزوح ويضاف الى ذلك عموم الناس الذين يعانون من تأثيرات الحرب الداخلية وارتفاع نسبة العنف القتل.
وفي إطار ذلك فإن هذه المأساة أخذت بالتفاقم والازدياد في ظل استمرار وتصاعد الحرب النفسية والإعلامية والحصار الاقتصادي والصراع المسلح، فضلاً عن تقصير المجتمع الدولي بما فيه الأمم المتحدة وعدد من الهيئات والمنظمات الدولية والإنسانية في توفير الآليات اللازمة لحماية اللاجئين والدفاع عن حياتهم وحقوقهم طبقاً للقوانين الدولية الإنسانية في زمن الحرب او السلم.
فلا تقتصر مأساة السوريين على اللجوء خارج بلادهم، فمنهم من اضطروا الى النزوح داخل البلاد وهؤلاء تجاوز عددهم أربعة ملايين وفقاً للأمم المتحدة، كما يشير التقرير الذي أعده مركز دمشق للدراسات النظرية والحقوق المدنية، الى معاناة النازحون من المشاكل النفسية والمادية والجسدية، حيث انتشرت الأمراض نتيجة الضغوط النفسية واكتظاظ أماكن الإيواء ونقص الرعاية الطبية وخاصة بين الأطفال، كما أن عدد كبير من التلاميذ والطلاب النازحين انقطعوا عن دراستهم ويعانون الآن من فقدان حقهم في التعليم، كما تعرضوا هؤلاء في الدول المجاورة لشتى أنواع الاهانات و الضغوطات والاستغلال، ولا ننسى هنا معاناة النازحات واللاجئات السوريات فمعظمهن فقدن أزواجهن حيث أن نسبة الرجال بين القتلى تفوق 80% كما يؤكد التقرير ، فكان على المرأة وحدها ان تتدبر حماية الأطفال وتدير شؤون عيشهم والتنقل بهم من مكان خطير الى آخر أقل خطورة والبحث عن لقمة كريمة، فضلاً عن إجبار القاصرات على الزواج واستغلالهن جسدياً.
وفي إطار ذلك فإن هناك مشكلة لوجستية أساسية تتعلق بضعف الإمكانات المادية لتأمين المستلزمات الأولية الإنسانية للاجئين لدى دول الجوار، فلم تستطيع المنظمات الدولية ودول الجوار من تحمل المسؤولية إزاء هذه الكارثة الإنسانية.
ولهذا وصف المفوض الأعلى للاجئين أنطونيو غويتريس في بيان له حول اللاجئين السوريين بقوله" سورية أصبحت مأساة هذا العصر الكبرى، هي كارثة إنسانية مشينة مع ما يواكبها من معاناة وعمليات تهجير لم يشهدها التاريخ الحديث".
إن النزاعات الداخلية والقتل العشوائي والأوضاع المادية والإنسانية في الوطن العربي لا يؤثر فقط على صورة العرب وحجم الاستثمار لديهم بل أصبح يؤثر على نفسياتنا وعلى أطفالنا الذين تكونت لديهم نظرة سوداوية عن الحياة وهم في أول ربيع أعمارهم، إذ تمثل المنطقة العربية الأكثر سخونة في العالم فيما يتعلق بقضايا اللاجئين سواء من حيث العدد أو المستلزمات والاحتياجات الغير متوفرة، فهناك الملايين من اللاجئين والنازحين السودانيين والعراقيين واليمنيين والصوماليين....وغيرهم، يضاف الى ذلك ملايين اللاجئين السوريين، الذي يهدد بكارثة شاملة وإنفجار فيما يتعلق بقضايا الأمن والإرهاب والعنف والتطرف.
في إطار ذلك يمكن القول إن أي دولة او حضارة ما كان لها أن تقوم إلا على أساس قاعدة الأمن المستتب في كل انحاء المناطق، ولعلنا في هذا البلد العزيز والغالي على قلوبنا لم ندرك أهمية الأمن وحتمية الأمان ومعنى الامن والاستقرار، إلا من خلا ل هذه المرحلة الذي انتشر فيها الانفلات والفوضى ثم تحول الى صراع ومواجهات مسلحة امتدت لمحافظات مختلفة من القطر، دفعت بالسكان الآمنون في أحيائهم وحاراتهم ثمن الصراع وسددوا فاتورة الحساب من دمائهم وأموالهم وممتلكاتهم.
وفي الحقيقة انه لا يمكن تحقيق الأمن على أرض الواقع إلا إذا تكاتف الجميع وذلك من أجل مصلحة الوطن، والأمن مسؤولية كل انسان يعيش في هذا البلد، والمواطن له دور كبير في الحفاظ على هذه النعمة" الأمن" فالمواطن هو رجل الأمن الأول، فأمنه من أمن الوطن والعكس صحيح، ودوره كشريك في الأمن والأمان لا يقل دوره كشريك في البناء والعطاء، والمواطن المثالي هو الذي لديه غيرة على وطنه ويحرص على ممتلكاته وهذا واجب ديني ووطني وإنساني، فسورية تحتاج الى سواعد أبنائها قبل سواعد أصدقائها خصوصاً في هذا الوقت الذي نرى العالم من حولنا ينتشر فيه الصراع والقتل والخراب والتدمير.
فلا بد من وضع حد لقضايا العنف والإرهاب وجعل قضية اللاجئين في رأس قائمة الأولويات للتحديات العربية التي تحتاج الى حلول سريعة لأنه يرتبط بأمن كل دولة وبالأمن القومي أو الإقليمي، فضلاً عن تأثيراته على السلم والأمن الدوليين، وهذا يحتاج الى جهود المنظمات الدولية والعربية لوضع برامج طويلة الأمد لمعالجة هذه الظاهرة وتوفير المساعدات المالية أضافة الى الرعاية الصحية والتعليم وغير ذلك من الخدمات الاجتماعية، وإزالة جميع العراقيل التي تحول دون تمتع اللاجئين والنازحين السوريين بالحماية الدولية اللازمة فيما يتعلق بلم شمل الاهل والعائلات أو الانتقال من مكان الى ا خر.
وانهي مقالتي بالقول إن مسألة اللاجئين السوريين كرامة وطنية وإنسانية وحقوق يجب صيانتها وأدائها، وإن عدم حل مشكلتهم قد يقود الى كارثة إنسانية ومشاكل إقليمية ودولية معقدة، لذا أصبح من الضروري السعي الجاد لخلق التغيير المنشود لتحقيق كافة التطلعات والآمال الوطنية العريضة التي يتطلع اليها الشعب بكل فئاته، للوصول الى غد مشرق وواقع حياة مزدهرة أكثر ألقاً، والى ظروف وطنية أكثر أمناً وأقل عنفاً وفساداً.
