اليوم يمر المجتمع الليبي بظروف حساسة أثقلت كاهل الشعب، ودفع الليبيون تكاليفها من دمائهم وتكاليف معيشتهم، وأصبح من الضروري على الحكومة الليبية السعي الجاد لخلق التغيير المنشود لتحقيق كافة التطلعات والآمال الوطنية العريضة التي يتطلع اليها الشعب بكل فئاته، للوصول الى غد مشرق وواقع حياة مزدهرة أكثر ألقاً، والى ظروف أكثر أمناً وأقل عنفاً وفساداً.
فرغم مرور عدة سنوات من الإطاحة بحكم القذافي، إلا أن ليبيا لم تجد بعد ضالتها لتحقيق الأمن والاستقرار الذي غاب عن الكثير من المدن الليبية لتحل محله لغة السلاح والميلشيات والقبلية والهجمات التي تطال البعثات الدبلوماسية، بل لا تزال تتخبط في دوامة العنف والفوضى.
تعاني ليبيا من فوضى عارمة وإنفلاتاً أمنياً بسبب غياب السلطة القادرة على ضبط الوضع وخاصة بعد انتشار السلاح بشكل واسع بين ميليشيات متعددة، وتدّخل حلف الناتو وقصفه للأراضي الليبية، فالذي يحدث في البلاد حالياً لا يمكن أن يقود لتأسيس دولة مؤسسات وقانون، ولا يمكن ان يكون في المسار الديمقراطي الصحيح، بل إن استمرار هذه الممارسات الخاطئة سيقود ليبيا إلى تداعيات كبيرة تتعلق بشراكتها ومصالحها مع الدول الأخرى على مختلف المستويات الدولية والإقليمية.
تشهد ليبيا ما يمكن وصفه بـفائض السلاح خاصة بعد عام 2011م، حيث فُتحت مخازن السلاح أمام الشعب الليبي ليحصل منها على ما يشاء من مختلف أنواع الأسلحة الخفيفة والثقيلة وبحسب استخبارات غربية فإن عدد الصواريخ التي إختفت من مستودعات السلاح الليبية تقدر بآلاف الصواريخ التي تشكل خطراً على كافة المنشآت الحيوية في المنطقة.
وفي سابقة من نوعها أقر رئيس الوزراء الليبي علي زيدان الذي تم إختطافه وأعيد إطلاق سراحه بعد ساعات، بإستخدام بلاده كقاعدة لتصدير الأسلحة الى أنحاء المنطقة طالباً مساعدة أجنبية لوقف إنتشار الأسلحة في ليبيا، وقال " إن حركة هذه الأسلحة تهدد دول الجوار أيضاً، لذا يجب أن يكون هناك تعاون دولي لوقفه "، مؤكداً أن الانتشار الواسع للأسلحة في ليبيا يشكل تهديداً أمنياً خطيراً، حيث يجري تهريب الأسلحة من والى ليبيا عن طريق جماعات تحاول قتل وإغتيال الناس ونشر الرعب في البلاد ".
وأضاف " نرى يومياً مسلحين يقاتلون بعضهم بعضاً والمشكلة هي أن الأسلحة متاحة للمواطنين الليبيين ومتاحة للشباب وهي في المنازل ومخزنة في كل مكان ".
وبحسب تقرير أعده خبراء بمجلس الأمن الدولي فإن ليبيا باتت في العامين الماضيين مصدراً مهماً وجاذباً للأسلحة، مشيراً الى رصد شحنات سلاح غير مشروعة وصلت الى حوالي 12 دولة تشمل أسلحة خفيفة وثقيلة بما في ذلك أنظمة محمولة للدفاع الجوي وذخائر من بينها الألغام.
وفي نفس السياق، تتعدد الميليشيات والجماعات المسلحة في ليبيا، أولها، درع ليبيا، معظمها تحالف ميليشيات من مدن ساحلية إلى الغرب والشرق من طرابلس، ثانيها، ميليشيات الزنتان، وهي ميليشيات قبلية بدوية من بلدة الزنتان الصحراوية التي تقع على بعد 140 كيلومتر من جنوب غربي العاصمة، ووجهت اتهامات لعناصر فيها بارتكاب التجاوزات التي شملت قطع الطرق والخطف، ثالثهما، اللجنة الأمنية العليا، وتحظى بنفوذ في شرق ليبيا وتعمل كقوة شرطة من الناحية الفعلية، وهي متحالفة مع درع ليبيا في وجه ميليشيات الزنتان القبلية، رابعهما، مؤيدو إقامة نظام فيدرالي في برقة، حيث يدعون الى قدر أكبر من الحكم الذاتي في اقليم برقة الشرقي في منطقة تكون بنغازي في مركزها، حيث كانت بنغازي مهد الانتفاضة على القذافي لذا فإنهم يطالبون بنصيب أكبر من مكاسب الثورة، وأخرهما، جماعات سلفية جهادية، تضم مقاتلين سابقين في الجماعة الإسلامية المقاتلة في ليبيا التي لعبت دوراً مهماً في الإطاحة بالقذافي ولها أعضاء في المؤتمر الوطني، وقادت هذه الجماعات تمرداً في التسعينيات وشارك بعض مقاتليها في القتال بالعراق وأفغانستان ضمن صفوف القاعدة، وهي تهدف لإقامة دولة إسلامية في ليبيا.
وبالتالي فإن السبب الرئيسي وراء تدهور الوضع
الأمني والانتشار الفظيع للفوضى في ليبيا، هو فشل السلطات في إعادة الميلشيات، إلى
الحياة السلمية أو إدماجها في المؤسسات الأمنية الجديدة، مثل الجيش والشرطة، كما أن
آلاف المسلحين سيطروا على مناطق شاسعة شرق ليبيا، على الرغم من جهود رئيس الوزراء
الليبي علي زيدان، الذي شكل لجنة لتنسيق الجهود الرامية إلى نزع السلاح عن هذه
الميليشيات، أما السبب الثاني لاستمرار الاضطرابات هو الاستقطاب السياسي والفشل في
التوصل إلى إتفاق بشأن مستقبل البلاد، وخاصة فيما يتعلق بقانون العزل الذي يمنع
مسؤولي النظام السابق من المشاركة في الحياة السياسية للبلاد، فضلاً عن النزعة
الانفصالية لدى سكان الجهة الشرقية من ليبيا الغنية بالنفط، وسعيا للحصول على
الاستقلال الذاتي، هذا مما يؤدي إلى ظهور مشاكل مرتبطة بتصدير النفط إلى الخارج،
وفي السياق ذاته، فإن التهديدات التي نجمت عن الانتشار الواسع للأسلحة، بما فيها
الكيماوية، واحتمال وصولها إلى أيادي متطرفة، فأن وقوع مثل هذا الاحتمال، سيشكل
خطرا كبيرا على الأمن القومي الإقليمي.
فملامح المستقبل الليبي ما زال غامضاً، فهل يتجه نحو الأمان والاستقرار أم يتجه نحو التصعيد والفوضى باستغلال كمية الأسلحة الخارجة عن سيطرة الدولة حتى اللحظة، فليبيا بالنسبة للعديد من السواح الأجانب ما زالت غير آمنة، ناهيك عن الوضع الاقتصادي الذي لم يتعافَ كلياً من الأوضاع التي مرت بها البلاد، بالإضافة الى المناوشات التي تحصل بين المناطق المجاورة، والذي يسقط ضحيتها الكثير من الناس الأبرياء، فضلاً عن الوضع الحدودي المتردي الذي تأخذ منه عصابات التهريب مصدر رزق لها، وصولاً الى الهجرة غير الشرعية.
والأهم من هذا كله أن الفرص التي تتمتع بها ليبيا والإمكانات المادية المهمة المتأتية من إحتياطاتها الكبيرة من الغاز والنفط، قد تتأثر سلباً ولا تتيح لليبيين الاستفادة منها في حال استمر الوضع الأمني المتدهور وعجزت الدولة عن بسط سيطرتها وإخضاع المليشيات والسلاح، لذلك تحتاج ليبيا إلى خطة أمنية محكمة لحل إشكالية فوضى السلاح، وكبح جماح المليشيات المسلحة، وصهرها في إطار الدولة وسلطة القانون.
أشعر بالحزن الشديد على الإقتصاديات والثروات الطبيعية للبلاد العربية التي تعرضت في السنوات الأخيرة لعمليات نهب وسلب ودمار منظّم ومدروس، فليبيا والعراق على سبيل المثال تحتاج لإعادة إعمارهما الكثير من المليارات من الدولارات، فلو كان قد تم استثمارها والاستفادة منها بالشكل المطلوب لحقق ذلك ثورة تنموية وتعليمية وصحية في العالم العربي.
وأختم مقالتي بالقول، لقد آن الآوان بالمبادرات الوطنية من أجل أمن واستقرار ليبيا، لذلك لا بد من العودة الى المصالحة الوطنية ونبذ كل الخلافات وأي مشاكل أخرى تنبثق منها، وهذا لن يأتي إلا من خلال الترابط والتعاون والعمل كفريق واحد ونبذ كل التفرق وكل الوسائل المؤدية اليه، وإشاعة روح التسامح والتعايش السلمي بين مختلف الديانات والمذاهب المتعددة فضلاً عن نشر القيم الإيجابية بين الناس كالتعايش والمشاركة والألفة والتعدد، لذا لا بد من حوار سياسي عاقل تشارك به كل الأطراف المختلفة لتستطيع ليبيا من بناء مستقبلها المشرق الواعدد.