على الرغم من جميع خيبات الأمل التي أعقبت ثورات الربيع العربي، فإن الليبراليين في الشرق الأوسط وخارجه كانوا يرون أن تركيا تشكل مثالاً يحتذى به بأن الإسلام والديمقراطية متوافقان، إلا أن ما جرى في الآونة الأخيرة يؤكد أن هذا الإعتقاد لم يكن في محله، فالوجه الآخر للنظام التركي ظهر بداية هذا العام خلال تعامل رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان مع الإحتجاجات الشعبية في متنزه “غيزي” في إسطنبول التي كانت تطالب بتجميد مشروع تطويره، وتشير تطورات الأوضاع في المنطقة إلى أن حكومة أردوغان تبحث اليوم عن دور سياسي لا تجده في مناخات الحل المتفق عليها غربياً بعد أن خسرت رصيدها السياسي في بازارات الحرب ودعم في سورية ومصر والعراق وغيرها من بلدان المنطقة.
من دلائل فشل سياسة حكومة أردوغان قيام مصر بطرد السفير التركي من القاهرة، وإختفاء اسم تركيا في مؤتمر جنيف حول سوريا، وإجراء مفاوضات مع رؤساء العشائر الكردية بدلاً من الحكومة المركزية في بغداد، والمسار السيئ للعلاقات التركية–السعودية، وإهانة أردوغان وإنزال صوره في فلسطين، والتطورات السلبية بين تركيا وتونس ودول أخرى إضافة للإنتقادات الحادة من صندوق النقد الدولي للمؤشرات الإقتصادية التركية.
واليوم تتخبط حكومة أردوغان في فضيحة فساد تعد أقوى ضربة وُجهت إليها بعد الإحتجاجات الشعبية التي واجهتها بالقمع في أيار الماضي، منددة بما عدته "عملية قذرة" ضدها، فقضية الفساد الكبرى التي طالت مسؤولين كبار، تضع حكومة رجب طيب أردوغان في عين العاصفة وتلقي الضوء على صراع داخلي على السلطة في تركيا، كما وصفها نائب رئيس حزب الشعب الجمهوري أنجين ألتاي " إنها أكبر فضيحة في تاريخ الجمهورية التركية".
كما أن أزمة الفساد التي تعصف بتركيا الآن قد تنهي طموحات رئيس وزرائها في الترشح للإنتخابات الرئاسية القادمة في سنة 2014م، فقد تبين إن عدداً من المقربين من أردوغان ومن قيادات حزبه ومن الوزراء مورطون في الفساد في قضايا تتصل بالمساكن الاجتماعية وتحديدا شركة "توكي" للمساكن الجاهزة ، وفي سياق ذلك يحاول
أردوغان الآن إمتصاص الغضب الذي خلفته هذه الفضيحة بعزل عدد كبير من ضباط الشرطة الذين يسعى الى تحميلهم مسؤولية هذه التجاوزات خاصة ان الشعار الذي رفعه حزبه في بداية صعوده إلى الحكم هو "الشفافية ومحاربة الفساد".
وبذلك أخذت هذه الأزمة منحى سياسياً عندما طالت أسماء لأعضاء من حزب العدالة والتنمية وأبناء ثلاث وزراء، فلم يتأخر رد فعل حزب أردوغان، فتم عزل 5 من ضباط شرطة اسطنبول من مناصبهم وبينهم المسؤول عن قيادة حملة الإعتقالات وإتهموا بأنهم تخطوا سلطاتهم، ويبدو حزب أردوغان وقد إهتز عرشه وفقد من مصداقيته بعد قضية الفساد وهو الذي بنى حملاته الانتخابية الناجحة (2002، 2007 ،2011) على العدالة والتنمية.
فعلى الصعيد الدولي فشلت سياسة عدم خلق خلافات مع دول الجوار إذ تعاني تركيا من نوع من العزلة الإقليمية خاصة بسبب تأييدها للرئيس المصري المعزول محمد مرسي، وبدلاً من أن تؤدي هذه السياسة إلى تحالف بين الدول الإسلامية يغني أنقرة عن التوجه إلى أوروبا، أو يتيح لها التفاوض مع الاتحاد من موقع قوة، أفضت إلى خلافات عميقة بين "السلطنة" ومحيطها، خلافات مع العراق ومصر، ومشاركة فعالة في ضرب ليبيا وتخريبها، وتورط في تفاصيل الحرب السورية، على أمل توسيع هيمنتها في بلاد الشام، بالتفاهم مع بروكسيل وواشنطن، وإسرائيل بطبيعة الحال، أما على الصعيد الداخلي، يقف أردوغان عاجزاً أمام إنخفاض نسبة النمو الاقتصادي والتي، وإن كانت لا تزال تتعدى نسبة 4 بالمئة، إلا أنها تتناقص بعد عشر سنوات من النمو المطرد، كما أن أسلوب القبضة الحديدية التي استخدمها ضد تظاهرات حديقة جيزي صيف 2013م،والتي خلفت 6 قتلى ونحو 8 آلاف جريح وتشدده في المسائل الإجتماعية صبت عليه سخط قطاع كبير من المجتمع التركي.
وبالتالي إن مواطني دول الربيع العربي، الذين ينظرون إلى تركيا بإعجاب كنموذج للنهضة الإقتصادية قد شعروا بالمفاجأة من المظاهرات التي شهدتها تركيا ضد حكومة رئيس الوزراء أردوغان، فالمركز الإقليمي للدراسات الإستراتيجية بالأهرام أكد، إن تركيا تراجعت شعبيتها إلى المركز الثالث في كل من مصر وسوريا والعراق، وهي الدول التي تتفاعل فيها السياسة التركية بشكل أكبر من سواها، وأوضح المركز الإقليمي، بإنه ثمة تراجع نسبي واضح في ثقة الرأي العام بدول الإقليم في الدور التركي بالمنطقة، حيث إنخفضت هذه النسبة في العام الجاري إلى 51%، أي أن تركيا فقدت 10 نقاط خلال عامين فقط ويتبع ذلك إنخفاض نسبة من يوافقون على أن تركيا تمثل نموذجاً للجمع بين الاسلام والديمقراطية من 67% في عام 2011م،الى 58% عام 2012م، ثم الى 55% عام 2013م، وهو ما يمكن تفسيره في أمرين إثنين أهمهما: سياسة حكومة طيب رجب أردوغان في التعامل مع احتجاجات ميدان تقسيم في العام الماضي، وثانيهما زيادة نسبة من يرون أن تركيا تنتهج سياسات علمانية، والتي وصلت الى 38% خلال هذا الإستطلاع ، بزيادة تبلغ 9 نقاط عن استطلاع عام 2012م.
ومما سبق يمكنني القول هنا من المحتمل أفول نجم الدور التركي في المنطقة مع انتهاء عام 2013م، لإنه كلما ازداد التدخل التركي في الشئون الداخلية لبعض دول المنطقة مثل مصر وسوريا انخفضت نسبة قبول النموذج والدور التركيين على المستويين الرسمي والشعبي، وتراجعت الثقة في الأدوار والسياسات الإقليمية التركية، خصوصاً في ظل توتر علاقات القاهرة وأنقرة بشكل غير مسبوق منذ ثورة 30 يونيو.
بالتالي أرى إن انتهاج سياسة تقوم على الشرعية والقيم الأخلاقية في مواجهة الشئون الخارجية يمثل أمراً مهماً وصحيحاً وإختارت تركيا إتخاذ موقف من الأحداث الجارية وكانت النتيجة أنها أصبحت طرفاً في الخلافات الجارية وجزءاً من المشكلة وبالتالي فقدت الفرصة للعب الدور المطلوب وضعف نفوذها في منطقة الشرق الأوسط جراء موقف حكومتها في السياسة الخارجية تجاه الأحداث الأخيرة التي تشهدها عدة دول بالمنطقة.
وأخيراً أختم مقالتي بالقول إن تركيا التي كانت قبل سنتين تنهض بسرعة كبيرة في الداخل والخارج تبدو اليوم أمام أزمات داخلية كبيرة وعلاقات سلبية مع دول الجوار الجغرافي، وفي العمق فان تركيا تشعر بخيبة أمل كبيرة لما آلت إليها سياستها الخارجية ولاسيما تجاه قضايا الشرق الأوسط على وقع تطورات ثورات الربيع العربي..
https://www.facebook.com/you.write.syrianews